عن الدبلجة وعازف الليل !

عليّ جبّار عطيّة | رئيس تحرير جريدة أوروك – العراق

كانت شوارع بغداد نهاية سبعينيات القرن الماضي تقل فيها حركة السيارات والمارَّة أوقات عرض المسلسل الكارتوني (مغامرات سنّدباد) الذي أُنتج في اليابان سنة (١٩٧٦م)  ثمَّ دُبلج إلى اللغة العربية، ليعرض في أغلب المحطات التلفزيونية، محققاً أرقاماً قياسيةً في عدد المشاهدين، مع أنَّه مسلسل رسوم متحركة يابانيّ من إخراج فوميو كوروكاوا، ومن إنتاج شركة نيبون أنيميشن، وتبلغ عدد حلقاته ٥٢ حلقة.
انتبه صانعو الأفلام والمسلسلات الدرامية إلى أهمية حكايات (ألف ليلة وليلة) فكان منها هذا المسلسل الكارتوني الشائق الذي اعتمد على رحلة  فتىً يُدعى سنّدباد مع عمه إلى مناطق مختلفةٍ من العالم.
كان صوت الراويّ في المسلسل يسحرنا، ويأخذنا أخذاً إلى متابعة مغامرات سنّدباد مطمئنّين إلى نجاته من الأهوال التي يواجهها، وإنْ كنا غير مطمئنّين في بيوتنا خوفاً من طارق الليل !
بعدها بمدةٍ قصيرةٍ رأينا صورة صاحب صوت الراويّ، وزعيم الصحراء في (مغامرات سنّدباد) في مسلسلٍ لبنانيٍّ مثيرٍ ذي حبكةٍ قويةٍ عنوانه (عازف الليل) فإذا هو الممثل البارع عبد المجيد مجذوب الذي أدى دور الراويّ بصوته الرخيم في الحلقات الست والعشرين الأولى بينما أداها في الحلقات المتبقية الممثل وحيد جلال الذي أدى دور علي بابا أيضاً !
ولابدَّ أن نعرف أنَّ الممثلة اللبنانية انطوانيت ملوحي هي التي أدت صوت (سنّدباد) بينما أدت  الممثلة اللبنانية جيزيل نصر صوت (الأميرة ياسمينة) !
وحسب مدربة الصوت والدوبلاج (مروة الأبياوي) في تسجيلٍ على اليوتيوب فإنَّ الدوبلاج ( doublage) كلمة فرنسية تعني: فن التمثيل الصوتي، وتلوين الصوت حسب الشخصية التي يتقمصها الممثل الصوتي.
وتنقل الأبياوي قولاً للمخرج الروسي قسطنطين ستانسلافسكي (١٨٦٣م.ـ ١٩٣٨م) مؤسس المسرح الحديث، ورائد الواقعية، ومؤلف كتابي (إعداد الممثل)، و(بناء الشخصية) الذي يقول : (إذا أردت اختبار ممثل فاختبره من وراء ستارةٍ) .
مسألة الدوبلاج قادتني إلى الجدل بشأن استخدام اللغة العربية الفصيحة أو العامية، وقد أخبرني الكاتب والصحفي محمد جاسم السبعاوي أنَّه عمل في إجازة الأعمال التلفزيونية في تلفزيون العراق في الثمانينيات، وأنَّ لجنة الفحص كانت لا تجيز أفلام الكارتون المدبلجة إلى اللغة العامية المصرية خوفاً على سلامة اللغة العربية عند الأطفال ! وهذا يدل على الأهمية الكبيرة للغة كوسيلةٍ تعبيريةٍ.
قيل الكثير عن مسألة التفاضل بين اللغة العربية واللغات العامية، لكن ظلت لغتنا العربية الفصيحة ترفع من قيمة أيّ عملٍ فنيٍّ إذا أُديت بطريقةٍ سليمةٍ، ولا تغيب عن الذاكرة أعمالٌ دراميةٌ دُبلجت في لبنان، فكانت الدبلجة المتقنة باللغة العربية الفصيحة أساس نجاحها، خاصةً الأعمال الدينية والتاريخية الإيرانية أمثال مسلسلات (مريم المقدسة)(١٩٩٧م)، و(يوسف الصديق )(٢٠٠٨م)، و(المختار الثقفي)(٢٠١٠م)، ولا ننسى فلم المخرج الكبير مصطفى العقاد (أسد الصحراء ـ عمر المختار) (١٩٨١م) الذي جسده أنطوني كوين، وكانت النسخة المدبلجة بصوت الممثل الكبير عبد الله غيث.
لنبتعد قليلاً عن الدبلجة، وتعالوا إلى ما وجدته في كتابٍ لم ينل حظه من الانتشار، وهو كتاب سبق أن نوهت إليه سنة ٢٠١٤م في عمودٍ نُشر في جريدة (التآخي)، وهو مذكرات سجينٍ سياسيٍّ هو الكاتب (صباح حسن العكيلي) المولود في محافظة كربلاء سنة ١٩٥٠م الذي أصدر كتاباً  عُدَّ من أدب السجون عنوانه (السجين رقم ٦٣)  عرض فيه  على مدى ١٨٠ صفحة من القطع المتوسط حكاية رجلٍ خياطٍ يعيش في كربلاء، وتعتقله أجهزة الأمن بتهمٍ جاهزةٍ محورها مناهضة النظام وتهديده، ويُزج به في زنزاناتٍ ضيقةٍ يتعرض فيها إلى مختلف وسائل التعذيب على أيدي أشخاصٍ تعتمد ترقيتهم الوظيفية على عدد الذين يقتلونهم في أثناء التحقيق، ولديهم نسبة خسائر بشرية في أرواح المتهمين في أثناء التعذيب تبلغ عشرة في المئة!  فيتعرض المعتقلون إلى الضرب بوحشيةٍ على يد سياط الجلادين حتى الموت مع أنشودة (يا گاع ترابج كافوري) !
هذه الرحلة الشاقة يسردها الكاتب الذي لم يكن كاتباً، ولعلَّه لم يفكر أن يكون كاتباً في يومٍ من الأيام؛ لأنَّ عمله في الخياطة بعيدٌ عن مهنة الكتابة.
فاجأني حقاً  في أثناء السرد توقف الكاتب عند شخصٍ لبنانيٍّ معتقلٍ هو الممثل العملاق عبد المجيد مجذوب الذي قادتني أعماله القوية إلى الحديث عنه، فهو المولود في طرابلس سنة ١٩٤٠م، وقد دخل التمثيل من بوابة الإذاعة بعد عمله غواصاً مع إحدى شركات التنقيب عن النفط في الكويت فهل أعطاه هذا العمل القدرة على التوغل في داخل الشخصية والتعبير عنها بصدقٍ؟


هو ممثلٌ بارعٌ في الإلقاء والأداء، واختيار الأدوار ، وفي إلقاء الشعر، ومثقفٌ، ورومانسيٌّ عرفه العراقيون في المسلسل المثير (عازف الليل) مع الممثلة هند أبي اللمع  (١٩٧٨م) بحلقاته الثلاث عشرة، الذي هو من تأليف وجيه رضوان وإخراج أنطوان ريمي والموسيقى كانت للفنان إلياس رحباني (١٩٣٨م ـ ٢٠٢١م) بما فيها المعزوفة التي اشتهرت باسم (عازف الليل)، وهو أبرز مَنْ جسد دور المتنبي بعنفوانه في مسلسل (أبو الطيب ـ مالىء الدنيا وشاغل الناس) (١٩٨٣ م)   .
جاء عبد المجيد مجذوب إلى العراق سنة ١٩٨٠م  للاشتراك بمسلسل (أيام ضائعة) لمؤلفه صباح عطوان، ومخرجه كارلو هارتيون، وتمثيله مع سميرة بارودي، وشذى سالم، وهند كامل، لكنَّ هذا الممثل الكبير في شخصيته وعطائه الذي أصبح ناراً على علمٍ لم يعصمه فنه من نار الدكتاتور فزُج به في الزنزانة التي كان العكيلي معتقلاً فيها بتهمة ملفقةٍ، هي رفضه التعاون مع المخابرات العراقية !


لم يقل لنا المؤلف كم يوماً أو شهراً ظل معتقلاً أو كيف نجا من السجن، لكنَّ ظهوره بعد ذلك في الأعمال الدرامية، والبرامج المنوعة، وعدم تخليه عن ثوابته، وقيمه يدلنا على أنَّ صوته بقي أعلى من أصوات الجلادين، وأنَّ كلماته التي يفصح بها عن نفسه تظل الأقرب إلى سيرته الحافلة بالابداع، إذ يقول في أحد اللقاءات : (ومَن يسعده الجلوس على قمة جبل، لابدَّ أن يتحمل مشقة التسلق) .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى