رغيفٌ من دم – قصة قصيرة

بقلم: حنان بدران
انبلج الصبح الحزين شبه المعتم في المخيم. كانت أمه تحفر بأظافرها في كومة طحين قديم، كأنها تبحث عن ذكرى رغيف، أو تصطاد شيئًا من حياة مضت.
قالت لأحمد:
“ما عاد في شيء… روح شوف إذا في مساعدات.”
أدار وجهه نحو الشمس، تمتم واجمًا:
“إن عدت، سأجلب لنا الحياة… وإن لم أعد، فسامحيني.”
ـ علينا أن نتعلم كيف ننزف بصمت، أفكّر وحيدًا، ونتقلب فوق خنجر الموت البديع في رقصة متفجّرة بالحياة والرفض.
إشراقة الصباح ضمادة نزفي، وقتلُ الخوف ضمادة وحدتي. في الطريق إلى ما يُسمّى بـ”مركز المساعدات الإنسانية”، لم يكن هناك طريق، بل مسيرٌ على جمر يمتد لأكثر من خمسة وعشرين كيلومترًا، تحت شمس تلهب الأرض والجلد. الطريق طويل، فوق أرضٍ تنبت موتًا لا ظلًا.
صمتُ الحياة في خلايا الوجع، وصراخ الرمل الحارق يتسرب عبر شقوق أذني. المركز لم يكن في قلب المدينة، بل عند خاصرتها المكشوفة، فوق التلال… حيث تتربص عدسات القناصة.
وما أنا إلا ذلك الممزق المشلوح أمام فاه الموت، وفي فمي حفنة من الرمل الدامي. لا حاجة لعدوّ في هذه اللحظة، فالمستهدف هنا هو الجوع ذاته، وكل من يركض خلف شبح كيس طحين. الآلاف تدافعوا. لم يكن سباقًا، بل قتالًا بين أفواه مفتوحة وصدور عارية. من يصل أولًا قد ينال ما لا يسد رمقه، لكن الجوع لا يترك للكرامة مقعدًا.
كنت في الخامسة عشرة. وصلتُ. انتزعت كيسًا من الأرز وعلبة زيت، وركضت كأن الرصاص خلفي، وكأن الظلام النهاري سينبت الورود محمّرةً بنزفنا العتيق. لكن ماذا بعد هذه البشاعة كلّها؟!
في طريق العودة، واجهت رجالًا ليسوا جنودًا، ولا جوعى فقط، بل أشباحًا.
عينهم العدو حتى يقتنصوا منّا ما أعطونا في مصائد الموت. أحدهم يلوّح بسكين صدئة:
“هات، وإلا أكلناك بدل ما تأكل.”
أعطيتهم كل ما أحمل. كان ما حملته لعنة. محاولة النجاة من محاولة قتلي لم تترك لي وقتًا للتفكير في الحياة أو الموت. عدت بخطوات مثقلة، عيناي مبللتان بالعرق والخذلان، ويداي فارغتان إلا من ذلّ التجربة. دفعت ثمنًا باهظًا لحياتي حين انتزعتها من فكّ الموت أكثر من مرة—موت الطفولة، البراءة، الفرح، والطمأنينة.
نظرت إلى أمي وهي تنتظر أن أقول لها شيئًا. لم أحتاج إلى الكلمات قلت فقط:
“يضعون المساعدات أمام الكاميرات، ليظهروا كأنهم بشر… وكأنهم يقولون لنا:
ـ ما نفعله لصورتنا أمام العالم لا لتأكلوا.
وكل من يصدّقنا، يكون ثمن حفنة طحينه رصاصة . يتركوننا لنموت في الطريق إليها.”
شعرت كأنني انتحاري من أجل الحياة، رغم موتنا داخليًا، وأنا أسمع أنات إخوتي الصغار يتضورون جوعًا أمام عيني. وفي عيني لمعة من عاد حيًّا… ولم يعد…!!!



