د. عادل منّاع في كتابه “نكبة وبقاء”يكشف عن المذابح “بالجملة والمفرّق”
عزيز العصا | معهد القدس للدراسات والأبحاث/ جامعة القدس
فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 09 كانون الثاني، 2021
http://alassaaziz.blogspot.com/
“د. عادل حسن منّاع”؛ أكاديمي وباحث فلسطيني، اكتوى بالنكبة وسعيرها؛ فقد ولد في أتونها –في العام 1947- وعانى مع أسرته مرارة التهجير والعودة إلى قريته “مجد الكروم”. والتخصص الدقيق لـ “منّاع” أنه مؤرّخ متخصص بتاريخ فلسطين في العهد العثماني، وباحث في الدراسات الإسرائيلية، وخصوصًا ما يتعلق منها بتاريخ الفلسطينيين الذين بقوْا بعد نكبة الشعب الفلسطيني في العام 1948م. له العديد من المؤلفات والمقالات والدراسات في هذه المجالات. وأما الكتاب الذي نحن بصدده فهو كتابه “نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلّوا في حيفا والجليل (1948-1956)”، الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 2016.
يقع الكتاب في (480) صفحة من القطع المتوسط، يتوزع عليها: مدخل بعنوان “في البدء كانت الحكاية” ومقدمة تسرد “حكاية نكبة وبقاء”، وسبعة فصول وخاتمة وسبعة ملاحق. أي أننا أمام مؤلف مكتظ بالمعلومات والبيانات والبيّنات حول موضوع الكتاب.
لقد تمتع الكتاب بسيمياء العنوان والغلاف بشكل جاذب، ينبئ القارئ عن المحتوى؛ وهو حكاية شريحة من الشعب الفلسطيني الذي بقي ضمن حدود الدولة العبرية التي أقيمت بالقوة على أرض الشعب الفلسطيني واستباحت تاريخه وحضارته التي بناها عبر آلاف السنين، بلا انقطاع.
تأتي هذه الدراسة في ظل المحاولات الدؤوبة للدولة العبرية الساعية إلى إسكات أصوات الضحايا، لمحوها من سجل التاريخ. بالإضافة إلى أن كل مجرم يحاول الهروب من نفسه ونسيان جريمته، محملًا الضحية مسؤولية وقوع الجريمة.
حصر الباحث المعلومات والتحليلات في بعديْن محدديْن، هما: البعد المكاني المتمثل في حيفا والجليل، والبعد الزماني والمتمثل في العاشوراء الزمنية (1948-1958). ويلاحظ من السرد أنه لم يخرج عن هذيْن النطاقيْن، وبقي ضمنهما من أول الدراسة حتى آخرها. وعليه، فقد تم مناقشة العمليات العسكرية والاتفاقات والمذابح والمجازر لا سيما في منطقة الجليل، التي تعرضت لعملية “تطهير عرقي”، وفق عملية عسكرية أطلق عليها “عملية حيرام”(1) ، وقام جيش الاحتلال الإسرائيلي في هذه العملية، التي تمت في وقت متأخر من الحرب، بتنفيذ عدد كبير من المجازر، وتم تدمير عدد من قرى الساحل وتشريد سكانها.
في محاولة منه للإحاطة بالموضوع من مختلف جوانبه، نجد أن “منّاع” يبتعد عن البكائيات واللطم، الذي عادة ما تغرق به الشعوب المضطهدة، ويشد أزر القارئ بتأصيل نظري ومفاهيمي لمكونات النكبة، بدءًا من تعريفاتها ومعانيها، وصولًا إلى قيام الدولة العبرية على أنقاض الشعب الفلسطيني المنكوب، مرورًا بتلك المذابح وعمليات القتل المستهدف والطرد والملاحقة التي نفذتها القوات المحتلة بحق الشعب الأعزل. ولأن المسار البحثي يقع ضمن السياق التاريخي المتسلسل للأحداث، فإن الباحث لم يمر مرور الكرام عن المتعاونين مع الاحتلال على خلفية الجاسوسية والخيانة، ولا المتعاونين لاعتبارات وحسابات سياسية، أو من تعامل مع الأمر على خلفية طائفية لا تستند إلى أي انتماء قومي(2)، ولا أولئك الذين يجدون أنفسهم –بشكل تلقائي- في حضن القوي أيًا كانت طبيعته وأيًا كانت أهدافه.
هكذا، يكون “منّاع” قد رسم الملامح الرئيسة لتشكّل مجتمع ما أسماهم “الباقين” في حيفا والجليل، والذين كانوا يمثلون أغلبية الباقين بعد تشريد نحو ثلاثة أرباع مليون فلسطيني في أصقاع المعمورة.
لا تكاد صفحة من هذا المجلد تخلو من واحد –على الأقل- من المصطلحات التالية: قتل، ذبح –أو مذبحة-، إعدام –فردي وجماعي، سريع وبطيء-، طرد، تهجير، إبعاد، شبح –نصب على الحائط-، احتلال… الخ. وجميعها جاءت بصيغة أفعال، أي ما قام المهاجمون به، وهم أولئك القادمون من خلف البحار لإقامة كيانهم على أرض الشعب الفلسطيني. الأمر الذي جعل “منّاع” يستبدل ما أسمته الدولة العبرية “استقلال” بـ “استحلال”، بما يحمله هذا المصطلح من دلالات المحو والإبادة البشرية والحضارية. ومن الأهمية بمكان أن الكاتب لم يكن مجرّد باحث خارجي محايد، وإنما الأحداث التي يسردها ويحللها تشكل جزءًا مهمًا من سيرته الذاتية، وسيرة أسرته وعائلته وقريته ووطنه. ولعل الكاتب اختصر الحكاية بوصف ذكريات النكبة عبارة عن “جرح مفتوح“؛ لا يمكن أن يندمل. ولعل هذا ما جعل الكاتب يقبل على بحثه هذا “بمشاعر مختلطة من السعادة والخوف والرهبة”.
لقد وظّف “منّاع” تلك المصطلحات والمفردات كما وردت فيما توفّر له من مصادر ومراجع ووثائق وشهادات، محاولًا تحقيق حالة اختراق فعلية للرواية الضالة والمضللة التي “نجحت!” الدولة العبرية في تسويقها لمواطنيها، القائمة على الفلسطينيين هربوا، وغادروا بيوتهم بقرار ذاتي وبطلب من العرب وتشجيع منهم أيضًا. وبذلك “أبرأت” إسرائيل نفسها من أي جرم أو جريمة، مهما صغرت!
ختامًا،
أغادر هذا الكتاب-الدراسة وأنا أشعر بضرورة العودة له مرة أخرى وثالثة ورابعة… وأما السبب فيعود إلى أنه يزخر بكمّ هائل من المعلومات والبيانات والأرقام ذات الصلة بمستقبل الأجيال القادمة؛ إذ أنه لا يمكن للسياسي أو الوطني أن يخطط لمستقبل الأجيال القادمة في الحرية والتحرر دون فهم دقيق ومتوازن لطبيعة الصراع والأحداث التي أوصلت وطننا الفلسطيني إلى ما هو عليه الآن من ضياع وتشرذم.
هوامش:
(1) شكلت مجازر هذه العملية نحو نصف المجازر الكبيرة والمعروفة خلال الحرب كلها (ص: 137).
(2) يشير الباحث إلى أن “الدروز عوملوا معاملة خاصة من الدولة اليهودية؛ فبقيت قراهم على حالها من دون أي أذى” (الكتاب، ص: 98).