الڤيلا

محمد صابر /مصر

كانت الساعة السادسة صباحا حين أستيقظ كعادته الأستاذ زكريا درويش أمين عام محافظة الإسماعيلية سابقا ، و هو صاحب المنزل الصغير ذو الحديقة و التى تملأها أشجار المانجو بقرية نفيشة و التى تقع قبل بوابة المحافظة بنحو ثلاثمائة متر تقريبا
و هى قرية يغلب عليها الطابع البدوى حيث أن معظم قاطنيها من أصول بدوية حتى أنهم أطلقوا على منزل الأستاذ زكريا الڤيلا
خرج الأستاذ زكريا إلى حديقته يحمل بين يديه صينية فضية اللون وضع بها كوباً من الشاى و شطيرة من الجبن القريش و الحصة اليومية من الأدوية التى سيتناول بعضها قبل الأكل و بعضها بعده
يحمل على ظهره ثمانية وستون عامًا أجبروه على الإنحناء و التقوس
كان شاباً فى الخامسة و الثلاثين من عمره حين جلس هذه الجلسة أول مرة و لكنه لم يكن وحيدًا كانت تجلس عن يمينه زوجته الحبيبة خديجة هانم المينسترلى و أبنائه فؤاد و فاروق و فوزية هكذا أختارت أمهم أن تكون أسمائهم ملكية
توفت خديجة هانم منذ عشر سنوات و هاجر فؤاد لكندا قبل وفاتها بعامين و لم يعد أما فاروق فقد عمل بوزارة الخارجية و أخذته المناصب و الترقيات فلم يرى أباه منذ ثلاث سنوات و خديجة سافرت مع زوجها الذى يعمل كمستشار قانوني لشركات البترول بالخليج
و أصبح الأستاذ زكريا وحيداً تماما إلا من الزيارة الإسبوعية للست أم الجاسر التى تأتى لتنظيف الڤيلا
كادت الوحدة أن تجثم عليه و تنهيه تماما إلا أنه كان يؤمن بالله و يخاف عقابه فكان عليه أن يقاوم

ذات صباح سمع صوتًا يأتى من جهة باب الڤيلا لشابان يتشاجران فتحامل على نفسه وقام و ذهب ناحية الباب ليلقى نظرة عما يدور بينهما و سبب الشجار
و عندما فتح الباب توقف الشابان فجأة عن الصراخ و أنطلق أحدهم يجرى بعيدا حين تسمر الأخر مكانه فسأله الأستاذ زكريا
– مالك يا ابنى مخشب كده ليه انت شوفت عفريت
فلم يرد
فسأله الأستاذ زكريا
– إنت تعرف عبد الناصر
– عبد الناصر مين يا حچ
– عبد الناصر يا إبنى جمال عبد الناصر الريس
– لاه أني معرفش حد سيبنى أروح و سا محنا عالإزعاچ
فبادره الأستاذ
– طب تعرف البطل أحمد عبد العزيز ولا تعرف اللواء محمد نجيب ولا حتى محمد على باشا
– ليه ده كله يا حچ أنا ما سويتلك شي إن كان حسنا علي حبتين حجك عليه أني محجوج لك و ماهى محتاجة تكلم حد من مصر مخصوص
– طيب أنا مش هكلم حد بس تقعد معايا ساعه كل يوم أعلمك فيها حاجة عن تاريخ بلدك
– طب و اني إيش أسوى بتاريخ بلدى هو بلدى عارفة إنى موچود يا رچال سيبنى أروح
– طبعا بلدك عارفة أنك موجود و بتحبك كمان بس إنت لازم تحبها و عشان تحبها لازم تعرف اللى جرالها على مر الزمن و مين كان معاها و مين ضدها عموماً اللواء محمد نجيب يا تقعد الساعه كل يوم هاه ايه رأيك
فهز الشاب رأسه ملوحًا بذراعيه لأعلى معلنًا إستسلامه خوفًا من اللواء محمد نجيب
و دخلا سويا إلى حديقة الڤيلا و منها إلى داخلها ثم صعدا سلماً يصل بين الطابقين و ما إن وصلا للطابق الثان حيث أصاب الشاب الذهول من الكتب المتراكمه فوق بعضها بعضًا بكل مكان و قعت عليه عينيه و عندما لاحظ الأستاذ زكريا لمعان عينيه و حيرته ربت على كتفه و سأله
– إنت إسمك ايه
رد
– فارس
فقال الأستاذ مرددا إسمه
– فارس فارس فرسان مصر كتير ممكن نبدأ بمينا موحد القطرين
– مين
– مينا ياإبنى تعالى تعالى دى حكاية كبيرة أوى
و أمسك الأستاذ بيد فارس و أتجها ناحية الشرفة التى تطل على حديقة الفيلا و هو يصف لفارس عن مصر الفرعونية قبل التوحيد و كيف كانت المملكاتان و الحدود بينهما و عن التاج الأحمر و التاج الأبيض ودون أن يتوقف عن الحديث تناول أحد الكتب بالطريق إلى الشرفة و راح يعرض الصور التى بالكتاب لفارس
جلس فارس لساعات و أيام و شهور و لم يكن فارس و حده بل أقنع العديد من شباب القرية حتى ينضموا إليه و أصبحت الڤيلا عامرة بشباب القرية يأتون كل يوم ليستمعوا للأستاذ و هو يحكى عن تاريخ مصر و عن أبطالها العظام يسبحون معهم بين الفرعونية و الرومانية و القبطية و الإسلامية المملوكية و العلوية يغوصون بشوارعها و حكايتها التى لا تفنى يحتسون الشاى مع مصطفى كامل و يتناولون الفول الأخضر من يد سعد باشا زغلول
لم تعد السماء بالنسبة لهم كما كانت فلقد أصبحت تناطحها رأوسهم تعلموا أن البيت هو الوطن و الوطن هو الأمل
و كان الأستاذ سعيدًا تدب الحياة بأوصاله و لم يعد يشعر بالوحدة و لكن لكل إنسان نهايه
بعد عامين من لقائهما الأول لم يستطع الأستاذ النهوض من سريره مستنداً على فارس كعادته بالأيام الأخيرة
– إرتاح يا أستاذ متتعبش نفسك
قالها فارس و هو يحكم الغطاء تحت قدمى أستاذه
رد الأستاذ بصوت خفيض
– يا فارس متحرمنيش من متعتى الوحيدة
– بس يا أستاذ
فقاطعه الأستاذ زكريا بصوت غاضب مكتوم
– مبسش و لا حاجة إنده للشباب أنا سامع صوتهم بره خليهم يدخلوا
تحرك فارس بإتجاه باب الغرفة و فتحه ثم أشار بيدهِ إلى شباب القرية المنتظرين بالخارج حتى يدخلوا لمقابلة أستاذهم و التى أعلنت عيونه المغرورقة بالدموع على أنها ستكون المقابلة الأخيرة ثم رجع لأستاذه ليساعده على النهوض ليضع رأسه على وسادة ليستطيع رؤية الحاضرين و التحدث معهم
ربت الأستاذ زكريا على يد فارس ثم نظر للمجتمعين بغرفته و قال و هو يحاول الإبتسام

– مالكم زعلانين ليه كدة ، و لا عشان خاطر خلاص هودع ، متخافوش أنا مش هسيبكم أنا هفضل معاكم طول عمركم بس هبقى ذكرى ، هتفتكرونى لما هتمشوا فى أى حارة من حوارى الحسين و السيدة ، هتلاقونى واقف تحت رجلين رمسيس و فى تابوت توت عنخ أمون متزعلوش عليه أنا بكره هبقى تراب و هتوه فى تراب بلدى اللى بحبها ، بس أوعدونى إنكم متنسوش مصر و إنتم تفضلوا فاكرنى اوعدونى إنكم متنسوش مصر

بعد ثلاثة أشهر و صل فؤاد وفاروق و فوزية أمام باب الڤيلا حيث أصابتهم الصدمة عندما و جدوا يافطة معلقة عليها كتب فيها

مكتبة مصر وقف لله تعالى على روح المرحوم الأستاذ زكريا درويش .

#khwater_saber

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى