قراءة انطباعية لنص (انبعاث) للشاعر بوشعيب حمدان

أحمد إسماعيل | سورية

أولا – نص الشاعر بوشعيب حمدان
(انبعاث)
راع أنا بناي أعمى،
أمسك أنيني،
أفقأ حلمتين من عباد الشمس..
سأضع الريح في جبي..
سأقبض على قوس قزح بجفني الأيسر..
أعيش بعين واحدة كقرصان.
يداي مصلوبتان لظل الشجر..
لن أموت إذن!!
قبل رحيل الغابة..

نطف الثلج المارقة…
ستروي قصتي..
ستلملم شتات الكلام…
لتبني قصيدة من بحر لجي…
في حقل غير ذي زرع..
سيكون لي…
ذرية من شقائق النعمان…
بملامح …دعسها الليل..
تمسك بظلي…
أصابعها من صلصال معتق..
بإكسير الحياة.

سأسوق الشمس..
من ظل الأمس..
ضفائرها مسجاة بين الشقوق..
هي بلا وجه…بلا خطيئة.
سأجز أنفاس القبرات…
من مقياس ريشتر…
سأسألها عن رحلة الشتاء والصيف…
عن ألوانها ..
المسلوبة من بقايا الطيف .

سأجمع فصوص الندى…
لأفتل قلادة للحياة.
هاهي تمر بقربي…
متبرجة..
نكاية في الموت.

سأستطيع خلع نعلي..
سأجدع أنفي الخشبي…
هذه العقدة تحت لساني،
ستفكها حتما قبلة جنية..
متسربة من بوحي…

سألحق بتلك التفاحة …
من جوف الخطيئة…
مقذوفان نحن في ثابوث…
أخطأنا طريقنا للنهر…
لن ننظف ثرثرتنا من خشائش الأرض.

من يحمل عني مزمارا،
جاحظ المقلتين…
لأغزل الفجر
لأورق من غزل..
مع الندى …مع الطل..
لأعانق زرقاء اليمامة..

سأخرج من الأرض..
بسيقان جديدة…
سأراوض صرخة نيوتن…
وسيضعني في مزهرية.

ثانيا – القراءة الانطباعية:

حقيقة نحن هنا أمام نص ليس بعادي هنا نجد الشاعر و الرسام و العاشق و المخرج السينمائي الذي يمزج بين كل تلك الشخصيات ليصنع منه دراما عنوانها الوطن فالشاعر هنا عمد على تصوير المشاهد بومضات ذات انزياحات خاطفة بدأها من عتبة النص فالعنوان هو انبعاث
و الانبعاث هو قيامة الشيء وإعادة ولادته لكن الشاعر كان لا يتحدث عن انبعاث عادي
إنه يتحدث عن انبعاث وطن لذلك كان مطلع النص حوارا مع الذات بدأه شاعرنا بقوله راع أنا بناي أعمى ياترى لم اختار شاعرنا كلمة الراعي ولماذا هو بناي أعمى
الراعي هو إشارة لراعي القطيع والراعي يجمع القطيع ويقودهم من خلال نايه هذه الصورة العميقة من المطلع تترك المتأمل من مطلع النص في حالة من الفضول والدهشة
هل الراعي هو الحاكم؟ أم الراعي هو كل رب أسرة؟ طبعا هنا حرفية الشاعر و هو يستخلص التناص من حديث الرسول الأكرم كلكم راع و كل راع مسؤول عن رعيته أو فيما معناه
فالشاعر جمع بين المعنيين من خلال إضافة عبارة وناي أعمى فهو يشير إلى واقع أوطاننا وكيف خيم عليها الصمت فالعمى هنا يشير إلى فقدان المبادرة و الرضوخ و التسليم بالأمر أو بمعنى أدق العجز لذلك تابع بومضات مكثفة أمسك أنيني أفقأ حلمتين من عباد الشمس
هنا إشارة إلى السلطة و هي تقمع المثقف العربي وتحطم احلامه لذلك نجد جشع الحاكم وكيف أنه يرى أنه يسير الرياح التي يحركها هؤلاء المثقفون ليغلق عليهم في زنزانته فهو يقبض بكفه على كل من يفكر أن يصنع جمالا و مجدا للوطن لذلك شبه الحاكم العربي بالقرصان الذي يحصد كل الكنوز لنفسه لذلك هو يظن أنه بتفكيره القاصر خالد لأنه ينمي في الوطن شريعة الغاب التي تحاول أن تمحو الأصالة و الأخلاق والنخوة و الفضيلة و التضحية حبا من أجل الوطن. في المقطع الثاني يرسم شاعرنا الحوار مع ذاته و القصيدة التي يكتبها
لذلك بدأ المقطع الثاني بالوعيد ف هذا البرد المخيم و الصمت الذي صنعه الحاكم المارق
لن يبقى على حاله في الظلمات فهو يبشر أنه سيكون هناك أجيال لا ترضى بهذا الذل تحب التضحية و الشهادة وهذا ما قصده ذرية من شقائق النعمان أصابعها من صلصال معتق
هنا الإشارة إلى أصالة منبتهم وكيف تربوا على حب الوطن وهم سيصنعون الحياة للوطن في المقطع الثالث يرفع مبدعنا إيقاع الحوار ليكون المتحدث باسم الجيل الواعد فيشير إلى أنه سيعيد الوطن إلى بريق الماضي و مجده وسيجعل خيراتها تتدفق حتى لا يكون هناك فقير او محتاج وهنا نلاحظ كيف صنع شاعرنا الدهشة في انزياح المجاز ضفائرها مسجاة بين الشقوق
الضفائر هي الخيرات و الشقوق هي رمز لكل محتاج و فقير فشاعرنا أخذ مشهد. الشقوق التي في كف الفقير من كثرة الجوع والعمل و البرد وسخرها لتتكلم عن المشهد كاملا ومايدل على ذلك أيضا أنه استقطب تناصا مذهلا و هو رحلة الشتاء و الصيف وكيف أن هذه الخيرات سيجز صداها غناء القبرات وهذه الهزة لا تشبه اي زلزال ولا يستطيع مقياس ريختر قياس شدتها لأنها لن تكون قولا كما في العادة هي ستكون فعلا يدرك من خلاله كل طاغية ما اقترفت يداه لذلك جعل المقطع بداية للمعجزات التي سيصنعها هذا الجيل و الشاعر هنا رسم الدهشة في آخرها بقوله نكاية بالموت فهو لا يؤمن بأن الوطن يموت لذلك كان يتصورها دائما كما كانت في الماضي متبرجة بزينتها المقطع الخامس يشير شاعرنا كيف نتحرر من هذا الصمت الخانق فيبدأ بأنه سيغير درب الصمت وسينهج في درب العمل و التضحية ويشير أنه سيقطع أنفه الخشبي أي سيلغي حالة الجمود التي تسيطر عليه ويشم عطر الوطن ليتدفق بها حياة و الصمت لن يكون عقدة في لسانه فهو سيصدح بعشق الوطن تلك هي الجنية التي ستجعله يتدفق شجاعة ونخوة وانتماء فهو بذلك نبض يغني الوطن دون انقطاع.

المقطع السادس طبعا بدأها الشاعر بالتفاحة و هو تناص ماخوذ من قصة آدم عليه السلام الذي ارتكب الخطيئة بتناولها لكن هذا التناص لم يوضع عفويا هنا فآدم حين ارتكب الخطيئة لحق بحواء وكان ذلك لأنه يحبها وهنا الشاعر استخلص الزبدة فهو كان يقصد أنه سيلحق حب الوطن ومعنى الخطيئة في السطر الذي بعده هو أن من حوله من رعاة الطغاة يعتبرون حب الوطن خطيئة وهنا يحملنا الشاعر بأجنحة مجازه إلى تناص آخر و هو قصة موسى و التابوت والنهر فهو يرى أنه سيغلق على نفسه مع ذلك الحب لبيحر به إلى بر الأمان الذي هو يؤمن به و النهر يمضي إلى مصبه غير آبه بالحصى و الحجارة لذلك قال وهو واثق من صوته
لن ننظف ثرثرتنا من خشائش الأرض وكأنه يقول واثق الخطى يمشي ملكا في المقطع السابع يحول مبدعنا الحوار لأبناء وطنه متسائلا من يحمل عني مزمارا وهنا ليس المعنى بأنه تعب من الحمل بل هو يطلب بعد شحذه للهمم من سيشاركني لنعزف معا مجد الوطن فالشاعر استقطب عدة صور مبهرة هنا جاحظ العينين زرقاء اليمامة ليوصل فكرة أنه يرى ذلك المجد بوضوح بصيرته و أنه ليس بعيدا كما يظنون فالفجر سيورق و ينشر عبقه و هم يغزلون دروبهم بالجد و التضحية و الاخلاص وهذا كان واضحا و جليا في المقطع الأخير فهو يعود بفلسفته لعتبة العنوان من خلال فكرة الانبعاث فهو في قفلة النص يضرب بعرض الحائط كل زيف الواقع
و أن الوطن سيقف على قدميه من جديد و بثبات أكثر ويغير قوانين جاذبية نيوتن ليكون الوطن مركز الجاذبية بما يصنعه من دهشة و جمال فكل من كان له بصمة في وقوف الوطن
سيكون كقطعة أثرية خالدة لا تعرف الموت فكل ذرة في الوطن تنبض بهم و بأفعالهم و في النهاية أقف وأنا المليء بكل هذا الإحساس في النص لأعود و أنهل من النص دونما رغبة بالخروج فالنص يمتلك موسيقى تصويرية مذهلة وكأنها سيمفونية الدخول إلى الجنة ل كارل أورف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى