قراءة في رواية ” قبل أن يأتي الغرباء”
بقلم: رفيقة عثمان | فلسطين
رواية “قبل أن يأتي الغرباء”، للكاتب المقدسي عبد الله دعيس، عن دار النشر مكتبة كل شيئ – حيفا؛ صدرت هذه الرواية في نهاية 2020. تعتبر الرّواية واقعيّة خياليّة تأريخيّة.
اختار الكاتب حقبة زمنيّة محدودة؛ لسرد أحداث روايته 1775- 1810 م، ونجح في وصف حياة الفلسطينيين الاجتماعيّة، والسياسيّة، في أحداث وأسماء حقيقيّة، مُطعّمة بالخيال الواسع. لدرجة يظن القارئ بأنّه يعيش تلك الفترة، من خلال الزّي للنساء والرّجال؛ لباس النساء للثياب السوداء الطويلة، والبرقع على الرأس والوجه، كذلك الرّجال بارتداء القمباز والعمامة. كما صوّر طريقة الحياة الاجتماعيّة في القرية والمدينة، وكذلك الحياة الدينيّة وأماكن العبادة والطقوس مثل: مقام النبي موسى، وزيارة مقام النبي صموئيل، ومسجد علي .
تقلّدت دور البطولة امرأة وابنتها، وعلى لسانهما سُردت الأحداث بضمير الأنا، دمج الكاتب أصوات متعدّدة للسرد، بفنيّة متقنة.
احترت عند انتقاء الكاتب لدور البطولة النسويّة؛ والتي حمّلها فوق الطاّقة، بوصف الأم مريم بالمُغامرة، والتجوال في البلاد وهي راكبة الفرس، ومواجهة الصعاب أثناء تجوالها، كذلك الحال بالنسبة لابنتها سارة، في زمن المحافظة على النساء وعدم إشراكهن بأعمال الرّجال.
هنا تبادرت إلى ذهني تساؤلات عديدة: تُرى هل أراد الكاتب دعيس أن يرمز للمرأة بالوطن فلسطين؟ التي ترزخ تحت الاحتلال والظّلم، وتبقى قويّة مهما تقلّبت عليها الأحداث؟ وهل زواج الأم مريم من رجل غريب -ابراهيم الحلبي – الرجل النصرانيّ الأصل بعد تحوّله من اليهوديّة، فأنجبت منه طفلة جميلة. هذا الحدث غريب وغير قابل للعقل، كيف تجرؤ امرأة من بيت اكسا بالزواج من هذا الغريب والذي كان اسمه “أرنولد ديزرائيلي”؟ وهل تعرّض الابنة سارة لاعتداءات واغتصاب عند زيارتها مصر مع زوجها، إشارة للاعتداءات التي لاقتها فلسطين إبان الحكم العثماني؟
كانت القدس حاضرة بكل تفاصيلها، الأماكن المقدّسة، الحارات، العقبات، والزوايا، وقرى ضواحي القدس، كذلك أسماء القرى والمدن؛ التي كانت حينها، واليوم قد أصبحت إما مُهجّرة أو مدمّرة، وتحوّلت لأسماء جديدة أخرى. كما حضرت الأماكن بشكل واضح مثل: بيت اكسا و أبو غوش، الجبعة والذيبة، لفتا والرّملة، يافا وقرية الحرم، عكا، غزّة، جبل الجرمق الخ.
أبرز الكاتب دعيس ظاهرة التسامح الديني في القدس، وتضامن المسلمين مع المسيحيين في إطفاء الحريق في القيامة، وأبرز ظاهرة التعاون والتآخي بين الأديان وخوفهم على بعض، كما ورد صفحة 349 “رأيت الشّيوخ والأطفال والمسلمين والنصارى وكل من سكن هذه المدينة يهرول الى الكنيسة المشتعلة، ويخوض غمار النّار من أجل إطفائها”.
” قبل أن يأتي الغرباء” عنوان الرواية، جاء هذا الاختيار، ربّما لأنّ فلسطين كانت مفتوحة على كل البلدان العربية، وتبادل الزّيارات، والتجارة، وزيارة الحجاز للحج؛ على خلاف ما عليه اليوم.
اغتنت الرواية بعنصر التشويق، الذي طغى على أحداث الرّواية كاملة، وذلك من حلال أسلوب السّرد الرّوائي المتسلسل، والحوار الذّاتي، والحبكات المتعدّدة؛ حيث تجذب القارئ وتشدّه للنهاية خلال فترة زمنيّة قصيرة. لقد أضافت اللّغة الجميلة المرصّعة بالمحسّنات البلاغيّة وزادت جمالًا لروح الرّواية وعنصرًا إضافيّا للتشويق. إِن استخدام الرّوائي اللّغة الفصحى، وقلّة استخدامه اللّهجة العاميّة أعطتها قيمة أدبية أكثر.
كانت العاطفة متأجّجة يسودها الحزن والألم والمعاناة؛ نظرًا للصّراعات والخلافات التي سادت المنطقة خلال تلك الحقبة الزّمنيّة حيث ظهرت هذه العاطفة عند شخصيّة البطلتين، أو عامّة الشعب، وقد قلّت عاطفة الفرح والسّرور، حتّى وإن ظهرت فهي نادرة جدّا، وفقًا لمتطلّبات الأحداث.
كتب الروائي رسالة باللّغة الإنجلييزيّة بالنص الكامل، لا أرى ضرورة رصد الرسالة باللغة الأجنبيّة، والاكتفاء بنصّها في اللّغة العربيّة.
كما ورد صفحة 239-242. ورد استنكار العنف والقتل كثيرا على لسان بعض الشخصيّات، حيث يدلّ ذلك على مبنى شخصيّة الكاتب التي انعكست في روايته، حيث آمن بعدم استخدام العنف بأيّ شكل من الأشكال.
كان للطبيعة دور هام في انعكاس المشاعر، سواء كانت حزينة أو مفرحة. مثل البحر وهديره، وانكسارات الأمواج، وجريان النهر، والرياح، وانعكاس الشّمس، أمواج البحر الصّاخبة، واخضرار الطبيعة، الجبال والهضاب، والوديان ” البحر راقبت أمواجه الهادرة، التي تتعاقب مسرعة لتنكسر على حافّة الشّاطئ وتختفي وكأنّها لم تكن، صفحة 44″. كذلك ” أما أم البلد ومن بعدها نساء البلدة فتلهج ألسنتهن بالزّغاريد وتتردّد صداها حتّى تردّدها الجبال والوديان”. صفحة 114. ” مكثنا أيّامًا في قرية الحرم، قضيت فيها ساعات طوال على شاطئ البحر أرقب تقلّب أمواجه التي كانت أقل اضطرابًا من خلجات نفسي وعصف أفكاري”. صفحة 230
انّ القالب الروائي استند على الحنين للماضي “النوستالجيا”، واختيار الكاتب للحقبة الزّمنيّة المذكورة أعلاه من الزّمن البعيد، تشير إلى لجوء الكاتب لنبش الذّاكرة وسرد احداث الماضي البعيد باستحضاره في الوقت الحالي، وبما يرافقه من كآبة وألم عند تذكّر المواقف المؤلمة، والتي لا حصر لها في الرواية. مثّلت الرسائل وكتاب مذكّرات السيد إبراهيم الحلبي، مصدرًا غنيًّا لمعرفة حياته الماضية، والأماكن التي زارها وارتباطه بها نفسيّا،.
إِن معظم الأحداث في الرّواية تشير بوضوح لاستخدام “النوستالجيا”. كذلك عندما وصف الكاتب مشاعر الشوق والحنين للقدس في نفس مريم، وسارة عندما اغتربتا عن الوطن.
خلاصة القول: تعتبر رواية “قبل أن يأتي الغرباء” للروائي المقدسي عبد الله دعيس، رواية ذات قيمة عالية، حيث راعت معظم العناصر المطلوبة للرواية؛ وقدّمت تأريخًا هامًّا عن مدينة القدس، في حقبة زمنيّة معيّنة. لقد حرّك الروائي الشّخصيّات ببراعة في المواقف المختلفة؛ إِنّ تمكّن الكاتب التّاريخي والجغرافي بتلك الحقبة الزمنيّة قد ساهم في إنجاح الرواية.
هنيئًا للروائي المقدسي عبد الله دعيس، الذي ساهم في إغناء المكاتب العربيّة، في إبداع جديد، في حُلّة جديدة؛ وتعتبر هذه الرواية من أفضل الرّوايات التي قدّمها سابقًا. حبّذا لو تحظى هذه الرواية، نصيبها من الجوائز التي تُقدّم للأعمال الرّوائيّة لهذا العام، بما فيها ما يخص مدينة القدس.