“مدخل إلى الأديان والعوْلمة”.. لأوغو ديسّي

 

عز الدين عناية

تَضَع ظاهرةُ العولمة الأديانَ أمام مستجدّات متنوّعة، بفعل تقارب إلزامي بات مفروضا على الجميع؛ فهذا التقارب قد يدفع أحيانًا إلى مزيد من الانعزال في أوساط المؤمنين، وقد يحفز بالمثل على البحث عن سُبلٍ للتأقلم مع الأوضاع الجديدة، والانطلاق في مراجعات بشأن التعايش في العالم الراهن. لا يتوقف الأمرُ عند ذلك الحد، بل قد تسهِم الأوضاع الجديدة في تعزيز انفتاح الأديان على المجالات العلمية والاجتماعية والبيئية المستحدَثة، وقد باتت تُسَائِل المؤمنين بإلحاح، بما يضع الأديان أمام قضايا مستجدة مطروحة بفعل المسار العولمي المتدفق. تقريبا وبشكل إجمالي، هذا ما يتناوله كتاب أوغو ديسي “مدخل إلى الأديان والعولمة”. نشير إلى أن المؤلفَ باحث متخصص في قضايا الدين والعولمة، سبق له أن أصدر جملة من الأبحاث في الشأن نذكر منها: “الأديان اليابانية والعولمة” (2013)، “الأديان اليابانية في مجتمع معوْلم” (2017).

في مُستهل كتابه -الذي نتولى عرضه- يؤكد أوغو ديسي أن ترسخَ البُعد العالمي في الثقافة هو سياق يعود إلى تاريخ بعيد، سبقته مراحل تمهيد تعود إلى عهود سالفة؛ فليس خافيا ما للأديان من دورٍ بارزٍ في ذلك المسار، سيما مع “الأديان المنادية بالخلاص”. ويبدو الطابع العالمي متجليا في الإسلام بشكل واضح، فقد شهد هذا الدين الإبراهيمي تطورا حثيثا من حيز مكة البدئي إلى مختلف أصقاع العالم في ظرف وجيز، وبما لم تعهده أديان من الحاضنة الحضارية نفسها. فما يُلاحَظ من تطورٍ متسارِع مع الإسلام وامتدادٍ على نطاق عالمي، نرصد اليوم شبهًا له مع الجماعات الدينية ذات المنزع المسيحي، على غرار “البنتكوستاليين”، هذا المذهب البروتستانتي ذي الملامح الإفريقية، والذي يناهز عدد أتباعه في الوقت الراهن نصف المليار؛ وكذلك “شهود يهوه” الذين يناهز عددهم 17 مليونا، وأتباع مورمون الذين تبلغ أعدادهم قرابة 15 مليونا، يعيش 9 ملايين منهم خارج الولايات المتحدة، وهي أمثلة جلية للتدين المعولَم.

وضِمن المحور الأول، يتناول الكتاب تداعيات اِلتقاء الأديان؛ حيث يخلف ذلك الالتقاء، بموجب السياق العولمي، ثلاث حالات: في مستوى أول نقف على ظاهرة الاستبعاد؛ حيث يُصر الدين السائد على احتكار المكان رؤيويا ومؤسساتيا، فيضيق على الوافد والمنافِس؛ وفي مستوى ثان يَقبَل الدينُ الغالب الاعترافَ بذلك القادم بشروط، وذلك ضمن إطار يحدده ويضبطه، وهو قبول مشروط؛ وفي مستوى ثالث، يقر الدين السائد والشائع بالاعتراف التام بالتعددية وبتساوي الفرص داخل الفضاء الاجتماعي، وهو خيار لا يزال يشق طريقه ببطء. فعلى سبيل المثال، ما انفك لاهوت الأديان المسيحي في جدل داخلي من حيث الإقرار بندية الآخر أو رفضه.

وفي تلك الأجواء لا يخفى ما تُفرزه العولمة من أثرٍ نسبي في النظر للأديان؛ حيث يُخيل للبعض أن الأديان متساويةٌ ومتماثلةٌ، وهي نظرة اختزالية تركن للحكم على الأمور وِفق الظاهر، وهو ما يتحدث عنه جورج فان بالت كامبل من تراجع الثقة في الاعتقادات وتدني الوضوح للهوية الدينية الذاتية مرفوق بشيء من الخلط في رؤية المعتقدات، مفسرا الأمر بأن المجتمعات كانت إلى عهدٍ قريب تعيش نوعًا من العزلة الدينية، يقنَع فيها كل طرف بما لديه، وإذا بها تجد نفسها أمام تقارُب مفروض. فعلى سبيل المثال كانت عوالم الشرق الأقصى، وإلى غاية عهود قريبة، معروفةً من قِبل قلة من الرحالة أو الدارسين ممن أتيحت لهم فُرص التواصل مع تلك العوالم، ومع تزايد ضغوط العولمة، باتت تلك العوالم حاضرة بالفعل في الأوساط الأوروبية وناشطة عبر وسائل التواصل، وهو نمط جديد من التنافس بات يزاحم المعتقد الذاتي. والواقع أن الحضور المباغت للأديان في بعض المجتمعات، وبدون تأهيلٍ كاف حوْلَه، قد خلف نوعًا من الارتباك في أوساط المؤمنين، نراه أحيانا في الأحكام المتسرعة تجاه المعتقدات المغايرة، وفي انتشار الفوبيا من بعض الأطراف الدينية. فعلى سبيل المثال: خلفت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ريبةً وتوجسا تجاه المسلمين في الأوساط الغربية، وهو ما أسهم في انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا.

فلا شك أنَّ العولمةَ تدفع أحيانا نحو أجواء من التشدد، تسير بخلاف ما هو منتظَر، في حال غياب رؤية واضحة للدين المهيمِن تجاه الأديان الأخرى، لا سيما لما يفتقد دين المكان رؤية منفتحة وخطة جوهرية. تَنتُج ضمن ذلك السياق حالة من الرفض للآخر تفتقر إلى مبرر واقعي، يتصور بمقتضاها الدينُ المهيمِن وعيَه بالدين هو الوعي المعبر عن طبيعة الأشياء. وما نشهده من استبعاد للآخر، ومن تشدد إزاء المغاير، ليسا في الواقع بفعل العولمة؛ بل بفعل عدم استعداد الدين المهيمِن للسياق الجديد الذي بات يتحكم بمسارات التدين على نطاق عالمي.

وفي المحور الثاني، يحاول الكاتب تناول مسألتي حِراك الأديان والحركات الفكرية الناشئة. واعتمادا على بحثٍ صادرٍ عن “منظمة بِيُو للأبحاث” بعنوان “حركة الإيمان” سنة 2012، يستعيد كتاب “مدخل إلى الأديان والعولمة” حراكَ الأديان في التاريخ الراهن. إذ تمس موجات الهجرة جانبا مهما من المسيحيين، تبلغ نسبته 49 بالمئة من مجموع الحراك الديني العالمي العام، يلِيهم المسلمون بنسبة 27 بالمئة، في حين يحوز الهندوس نسبة 5 بالمئة، وتصل نسبة حراك البوذيين إلى 3 بالمئة، واليهود 2 بالمئة. لتبقى الدول التي يفِد منها معظم المسيحيين: المكسيك بـ12 مليونا، وروسيا بـ8 ملايين، وأوكرانيا بما يقارب 5 ملايين. وفي حال المهاجرين المسلمين، تحوز بلدان المشرق العربي فلسطين وسوريا والعراق الرقم الأعلى بزهاء خمسة عشر مليونا تقريبا، وكل من الباكستان وبنجلاديش والهند بأكثر من ثلاثة ملايين لكل بلد؛ في حين يبقى أغلب البوذيين قادمين من فيتنام والصين بعدد يفوق المليون لكل بلد؛ وتتقاسم روسيا وأوكرانيا مليونا من يهود الخزر. وفيما يخص قِبْلة تلك التدفقات تبقى أوروبا المقصد المحبذ بنسبة 38 بالمئة، تليها أمريكا الشمالية بنسبة 34 بالمئة.

يجلو تأثيرُ العولمة بيِّنا فيما يخص تطور “الحركات النسوية الإيمانية”، بعد أن كانت تلك الحركات حِكرًا على التوجهات الاجتماعية العلمانية أو ذات المنزع الانتقادي للموروث الديني. حيث نشهد اليوم ظاهرةَ تعزز النشاط النسوي الإيماني، وذلك بفعل العدوى المستفحِلة جراء العولمة. فقد خاضت المرأة في العقود الأخيرة تنافسا مع الرجل على الأدوار الدينية، لتكتشف أن الأديان تمثلُ ملاذا لها أيضا، وأحيانا سبيلا للتحرر حين تُقصى من الإمساك بالسلطتين الاقتصادية والسياسية. استطاعتْ المرأة ضمن هذا التحول أن تُطور كاريزميتها الخاصة وأن تُنمي معارفها الدينية، التي لم تحظَ بالاعتراف اللائق، والتي أسهمت في إثراء الإنتاج الرمزي لعديد الأديان سابقا ولاحقا. يورد أوغو ديسي ضمن هذا السياق التشكيلات الدينية النسوية، ويعرج على التجارب الصوفية التي أتاحت للمرأة فرصة التعبير عن المقدس من منظور نسوي؛ سواء كان ذلك في اليهودية أو المسيحية أو الإسلام. فهناك ما يشبه العدوى تستشري بين النساء المتدينات في التاريخ المعاصر، تهدف للصعود إلى مواقع وأدوار كانت فيما مضى حكرًا على الرجال، خصوصا تلك الأدوار التي يضطلع فيها الذكور بالسلطة الدينية بشكلٍ حصري. هذا وقد شهدت النسوية الإيمانية تطورا في الأوساط البروتستانتية، حتى بات إسناد المهام الدينية للمرأة كراعية شائعًا، أو كذلك ما تتطلع إليه لتولي مهمة الأسقف. وفي الأوساط الكاثوليكية يسود جدلٌ حول تولي النساء مهمة الكهانة وإقامة القداس. نشير ضمن هذا السياق إلى المرأة الحاخامة داخل بعض الجماعات اليهودية الإصلاحية في الولايات المتحدة، ناهيك عن بعض المحاولات المحتشَمة، في الولايات المتحدة وأستراليا وأوروبا، مع ثلة من النساء المسلمات للتقدم للإمامة في المساجد.

ومن جانب آخر، يتطرق الكتاب إلى آثار العولمة في ظاهرة التحول الديني، أكان بالتحول إلى معتقَد جديد أو بالارتداد عن الدين القديم. فقد أسهم التقارب بين الأديان في تعزيز الترحل من دين إلى دين، وهو ما يبدو واضحَ الملامح في الأوساط الغربية. كان عالم الأنثروبولوجيا توماس كسورداس قد حدَّد أربعة أشكال رئيسية لانتقال الرسالات الدينية: العمل الدعوي، والحراك، والإعلام، والهجرة. وبفعل التواصل بين المسيحية والإسلام في المجتمعات الغربية، جراء الهجرة، ولدت تلك الأوضاع ظواهر غير منتظَرة تجلت أساسا في اهتداء أعداد مهمة من أتباع الديانة المسيحية إلى الإسلام، بما يفوق كثيرا عدد الناكصين المسلمين. تابَع هذه الظاهرة عالم الاجتماع الإيطالي ستيفانو أَلِيافي من خلال بحثٍ مميز بعنوان: “المسلمون الجدد.. المهتدون إلى الإسلام”، تطرق فيه إلى أثر حضور المهاجرين المسلمين في الوسط الإيطالي. فقد أسهم ذلك الحضور، رغم ما تتخلله من مصاعب وما يجابهه من عراقيل، في ظل عدم الاعتراف بدين الإسلام المعتقد الثاني في إيطاليا، في إمداد الكاثوليكي الإيطالي بنموذج معيش حي عن الإسلام والمسلمين. الأمر ذاته يحدث في جانب آخر، حيث يتواصل توسع “شهود يهوه” في إيطاليا من خلال جذب ألوف الكاثوليك نحو نِحْلة دخيلة وافدة من الولايات المتحدة، وذلك بفعل النشاط الحثيث لأفراد هذا التنظيم؛ حيث لا يتوانون عن إتيان التبشير المنزلي بالتردد على المساكن بيتًا بيتًا، وإن كان في غياب الاعتراف بـ”شهود يهوه” على نطاق مؤسساتي.

ضِمن القسمِ الأخير من الكتاب، يتناول الكاتب واقع التشتت ومستَوْجبات التوحد للمؤمنين. إذ يبدو أن تفاعلات العولمة قد طورت أساليب مبتكَرة أيضا في استيعاب الآخر ضمن إستراتيجية الحوار. فقد تبيَن أن “حوار الأديان” هو منهج ناجح في تذليل عوائق التقارب، لكن يبقى وسيلة فاعلة بيدِ الطرف الأقوى مؤسساتيا وتنظيميا لبلوغ ما يصبو إليه. وتاريخيا تعود البدايات الأولى لتجربة حوار الأديان في العصر الحديث إلى العام 1893 مع انعقاد البرلمان العالمي للأديان في شيكاغو. كانت المبادرة مسيحية، حضرها لفيف من ممثلي الأديان العالمية، غير أن شكل الحوار السائد حينها طغى عليه طابع المونولوغ الذاتي. ومع ذلك، دشن ذلك اللقاء بداية تواصل المسيحية مع أديان العالم. في أعقاب تلك التجربة عُقد “مؤتمر المبشرين العالمي” في إدنبرة بالمملكة المتحدة سنة 1910، تلاه مؤتمر آخر في مدينة القدس سنة 1928، إلى أن اتضحت معالم ذلك التمشي في مجمع الفاتيكان الثاني، وهو ما عولت الكنيسة الكاثوليكية عليه في التواصل مع أديان العالم بوصفه الأسلوب الأمثل لترويج الرسالة المسيحية.

ويبدو أتباع الأديان اليوم -سيما في جنوب العالم- تحت وطأة التحولات العالمية، وما لها من أثر على أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. فلا يخفى الطابع الليبرالي الطاغي للعولمة، وهي في الواقع عولمة لرأس المال وللتوسع الرأسمالي. يجد أتباع الأديان من مختلف التقاليد الدينية أنفسهم داخل أوضاع قاهرة على مستوى اجتماعي، الأمر الذي دفع بالملايين من أتباع الأديان للهجرة والبحث عن تحسين ظروفهم المادية والاجتماعية. لا يحظى الأثر السلبي للعولمة، سيما من ناحية اقتصادية واجتماعية، بالاهتمام اللازم من قِبل قادة الأديان، وإن كان التنبه لذلك والتحذير من تداعياته قد بدأ يلوح؛ فهناك حديثٌ عن انفراد بين الأديان عن تلك الآثار السلبية للعولمة، فقد أثيرت المسألة في الكنيسة الكاثوليكية كما الشأن في الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل” وفي الرسالة البابوية العامة “كنْ مسَبحا” للبابا فرنسيس، في حين يخفت الأمر بين سائر أديان العالم الأخرى. فلم نشهد تطورا لنشاط جماعي بين ممثلي الأديان لتداول الآثار السلبية للعولمة على المؤمنين سيما من ناحية اجتماعية، الأمر الذي دفع ببعض الشخصيات الدينية الحازمة للانخراط في أُطر نضالية من خارج الأديان لانتقاد المسارات الخاطئة للعولمة. بدا ذلك جليا في مشاركة رجُليْ الدين المسيحيين ليوناردو بوف وفراي بيتو في أنشطة “المنتدى الاجتماعي العالمي” المناهض للعولمة. يسجل الكتاب انتقادا للمؤسسات الدينية بشأن عدم انخراطها في مواجهة الآثار المباشرة للعولمة، مثل الأزمة البيئية ومسألة المديونية وتفشي البطالة، وهي قضايا عويصة تؤرق المؤمن، في حين لا تزال المؤسسات المعنية بالشأن الديني بعيدة عن إدخال تغيير في أجندتها لاستيعاب القضايا الجديدة، ليبقى الهاجس الأُخروي هو الطاغي على تصوراتها وتظل الأوضاع الاجتماعية حاضرة بشكل ثانوي. ومع أن السياق العولمي الجاري يدفع نحو نوع من الإحساس الجمعي بوحدة قضايا المؤمنين، وهو ما يشجع على العمل لتذليل العقبات التي تعترض الجميع أو تهدد تصوراتهم وأخلاقياتهم ضمن منظور أشمل، إذ لم يعد الضمير الديني منحصرا بفضاء معين وبرؤية محددة بل شاملا وعاما.

يُمثل كتاب “مدخل إلى الأديان والعوْلمة” جرْدَ حسابٍ مهمًّا للأديان مع ظاهرة عالمية لا تزال تُفصح عن آثارها وتفاعلاتها. يضعنا المؤلف أمام عديد التحولات التي تسائل الأديان، والتي لم يَعُد فيها النظر اللاهوتي والفقهي والديني يُصنَع في إطار ضيق ويُستَهلك في وسط محدود، بل بات خبرة معروضة أمام العالم.

————————–

– الكتاب: “مدخل إلى الأديان والعوْلمة”.

– المؤلف: أوغو ديسي.

– الناشر: منشورات كاروتشي (روما-إيطاليا)، 2019م.

– عدد الصفحات: 131 صفحة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى