أدب

ارتسامات عابرة مطلة على ديوان طوق الحرير للشاعرة التونسية سميرة الزغدودي

سعيد محتال | المغرب
طوق حرير الشاعرة سميرة الزغدودي يجسد رحلة خنساء أبت أن تكون مثل أخواتها، أرادت أن تصبح وتمسي متفردة في إنشادها متلذذة بعذابتها مفصحة عن حبها وعشقها، فكان لها ذلك، ” لأنّها تشعر بما لا يشعر به غيرها …” فجاءت تسمية الديوان بـ “طوق الحرير ” كنايةً عن الجمال الذي يعتبر مسارًا لقصة حب للشعر الموزون المقفى ، مستلهمة نصوصها من عالم الشوق والحنين والإعجاب بالذات، والرغبة في الاستحواذ على قلوب العشاق، إذ يُعتبر طوق الحرير رمزاً للثراء والفخامة والتميز والتباهي بكل ما هو جميل.


وكأننا أمام رحلة عشق جديدة تذكرنا بطوق الحمامة لابن حزم الاندلسي، لكن ديوان طوق الحرير استلهم نصوصه من نوع آخر من جنس الطيور، له رمزيته الخاصة لدى الشعراء، ألا وهو طائر العنقاء..
تُمثّل هذه الحالة تربة خصبة لولادة حالة نفسية جديدة، تخص شاعرة مفتونة بأرض القيروان العتيدة، ينتظرها مستقبل زاهر تحت ظلال دوحة الشعر والشعراء..
استعارت الشاعرة رمز “العنقاء ” وما تحمله من شحنات فكرية ودلالية للتعبير عن صحوة شاعرة تطمح للخروج من وضعية الرقود ، والتغلب على حالة الجمود التي اعترت ساحة الشعر، وقد تطلّب منها ذلك الصمود والثبات في مسيرتها الإبداعية، والبحث عن أرق الألفاظ، وأجود المعاني، حتى تتمكن من إثبات قدرتها على الانبعاث من جديد.
وكما أشار نيتشه: ” يجب أن تكون مستعداً لأن تَحرق نفسك في لهيبك الخاص فيك؛ وإلا كيف سيمكنك النهوض من جديد إذا لم تصبح رماداً أولاً؟ “. نيتشه، هكذا تكلم زرادشت.
تقول الشاعرة في مطلع قصيدة لها:
أفنتْ صدى صرخةٍ في صدرِها تمضي
بريشِها رفرفتْ تعلُو من النّفضِ
عنقاءُ تغتالُ طيفَ الموتِ صامدةً
حينَ استردّتْ خلودَ العيشِ في النّهضِ
تململتْ والثّرى من تحتها انبثقتْ
جناتُه زُخرفتْ من عُشبِها الغضِّ
وقد خصصت هذه الابيات – وغيرها كثير – للحديث عن مواصفات أنثى أُنجبت من تحت أنقاض النفض، وصراخ القلب الغضّ شديد الاضطراب. الشيء الذي مكّن من عودة الحياة إليه، قلب يعزف على أوتار الوجع ولذة العشق، من خلال التغني بقصائدها التي تعتبر منبع أملها، وسر خفقان قلبها، فارتوت واحة أشعارها بأعذب معانيها، الغنية برقة مشاعرها، المثقلة بقوة أحاسيسها..
والشاعرة في كثير من قصائدها تصف ذاتها ، وتقرب نفسها إلى القارئ على أنها تلك الأنثى التي تتسم بصفات العنقاء في صبرها وقوتها وقدرتها على الولادة من رحم المعاناة، والقادرة على استيعاب المواقف الصعبة التي قد تواجهها في مسالك الحياة.
شاعرة صاحبة القلب الدافئ، والنفس الطيبة، كل من رآها أو سمع بها أقبل إليها:
“جذابة تأسر الإحساسَ فتنتُها
في مدحِها يشتهي المحبوبُ أنْ يُفضي”.
شخصيتها جذابة يحبها كل من يتعرف عليها:
” تحظى برؤيتِها كلُّ العيونِ فمَا
تمكّنتْ حينَ مرْآها من الغمضِ “
شاعرة تسعى بكل ما أوتيت من قوة لتسمع صوتها للمتلقي وهي تحمل بين دفات قصائدها نصرة قضايا المرأة العربية والدفاع عن كرامتها، وكفاحها المتواصل للرقي إلى ما هو أسمى ..
وقد تمكنت الشاعرة في وقت وجيز أن تفهم أسرار الشعر وتتفنن في نسج أبياته، منذورة للحُبّ وله جاهزة، مجدولة بالعشق به تحيا، من يعرفها يهمس في قلبها : يا أنت لن تتكرري..!
نار الشوق يسكن جل قصائدها، فهي على عادة العشاق هائمة.. وفي لجّ يَمّهم تسبح.
هي زهرة عطر حروفها يشفي الجراح.
فجاء ديوان “طوق الحرير ” كي يجمع بين ما هو ثابت الشاعرة الأنثى التي اختارت ركوب بحور الخليل بشتى أصنافه ، ومُتغيّر يتجاوز ما تحمله حبات الطوق المتكررة من سياقات دلالية وصور مألوفة ومتماثلة، بل قد تجد كل قصيدة انفردت بصور شعرية جديدة متنوعة الدلالات والمقاصد، تحمل من العواطف والحالات الشعوريّة ما يجعلك تهيم في عشق بوحها العذب، المتدفق كقطرات الندى زمن الوصال..
كما تبحر بك أحيانا في دنيا الأحزان شاردة، تمضي بلا انتهاء، تجلس وحيدة كأنثى وئيدة، تغزل حروفا ملّت الانتظار بعد غياب الحبيب، والجوى حولها حريق . غارقة في يم بلا شط، تائهة في حضن الصحاري، فما ” بينهما أكبر من الحب ذاته”.. عاجزة عن وصف ما فيه من الجمال، حتى صار صبرها يشكو ألم البعد والفراق. فلم يترك لها الحزن شراعا، ويأبى القلب أن ينصاع.. حروفها تنزف جرحا، مما يضرم في قلبها لهيب الشوق، ترسم بأنفاسها خرائط العشق، حتى يبلغ الغرام منتهاه، وتهدأ النفس بطوق حرير شعر مبهج. فإذا بظلامها مشرق كنهارها، تبدو لك الشاعرة كريمٍ ترقص بأرض القيروان..
حينها تدرك سر قدوم رياح طوق الحرير من أرض تونس الشقيقة إلى بلاد المغرب الحبيب.
كلما قرأتَ لها قصيدة تجد في نفسك رغبة في اقتحام صوره الرقيقة المنسابة كشلال ماء عذب، يبهج دقات القلب، ويروي عطش العين.. كأنه فيض من معين الريّان تدفق، فلا غرو في ذلك وهي ولاّدة زمانها مذ خلقت، غدا لها في موطن العرب منبت ، كأنها ياقوتة في أرض الشعر تجلّت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى