صناعة العروض، تجلي الإيقاع (2)

عمارة إبراهيم | شاعر وناقد مصري

ولو عدنا الي طريقة كتابة النص الشعري في الزمن القديم، حيث كان العرب يرتقون بحياتهم، بإقامة أنشطة المبارزات والمسابقات، في فنون متعددة، مثل فن ارتجال الشعر، وإلقائه، وإقامة مسابقات المبارزة بالسيف، ومسابقات الفروسية، وغيرها.

حيث مثل الشعر لهم أرقي أنواع هذه المبارزات، لعراقة اللغة العربية، وجمالها، وما تجعل لها من فخامة من يتقن فنها الشاعر في عراقة، ورصانة بين القبائل، كما أن جمال جرسها، يمثل سيادة للإيقاع بين الفنون الأخرى وقتها.

وكان الشعراء في العصر الجاهلي، يرتجلون الشعر على إيقاعات صهيل الخيول، ودقات الطبول، والدفوف، وغيرها من الإيقاعات المستخدمة.، وغيرها في حفلاتهم الخاصة، والعامة.  حتى تطورت اللغة في بناء تمثل في كتابة الشعر بطرق عديدة وقت أن كان الشعراء يعتمدون على إيقاع اللغة، مع إيقاع وحدة الموضوع، حتى أن بعض النقاد الذين اشتغلوا في الدرس الأكاديمي عن جماليات الشعر الجاهلي في وقتنا الحالي وما سبقه، كانت قياساتهم ظالمة، وكانت خاطئة، حين أعلنوا أن الكثير منه، يفتقر إلي ضبط الإيقاع، لأنهم قاموا علي قياس أوزان الخليل حيث ظهرت بعد ذلك. ومن البديهي في علومنا الحسابية، أن ترتيب الحروف لإنتاج كلام مرتب الفهم يتحقق منه إيقاع الموسيقا بشكل حسابي دقيق، يختلف بطبيعة الحال عن إنتاج قصيدة تعتمد في إيقاعها على نغمة دقة طبل أو دف مثلا، بل كان يتوافق مع مفردة الحال، لأنهم كانوا يرتجلون أو يكتبون على إيقاع كان يرتبه الفعل في دقة معينة تنتج إيقاعا محددا، وليس ترتيب الحروف، الذي يحتاج الي درجة من الوعي تتفوق علي وقع حال الشاعر، ومن ثم تجيء اللغة هنا ذات موسيقا مرتبة الصنعة. لأن بناءها قام علي دقة “بكسر الدال” ترتيب الحروف وترتيب الكلام، حسب معطي البحر الخليلي، وهذا ما أراه خللا جوهريا في بناء إيقاع لغة الفعل في حال كتابة النص الشعري. ويعتبر الدكتور نعيم اليافي، في كتابه “نعيم الشعر العربي الحديث، “صدر عن وزارة الثقافة في دمشق عام 1981″حيث اعتبر أن وزن الشعر أساسه الكلمة، بينما الإيقاع أساسه الجملة، أو الوحدة، وأول من استخدم الإيقاع من العرب هو ابن طباطبا حيث قال “والشعر الموزون إيقاع يطرب الفهم لصوابه. وفي مدخل آخر من مفهوم الإيقاع الداخلي للشعر للكاتب نديم دانيال الوزة. حيث يقول: العرب ميزوا بين الإيقاع والنظم، منذ البداية التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي، ومنهم من يري أن يكون الإيقاع جزءا بما يتيح حرية أوسع في حركة تنظيم التفعيلات، غير أن بعض ممثلي هذا النوع إتكاء على ما قرأوه من امكانيات أخري، اعتبروا أن الإيقاع يمكن أن يأتي على ثلاث مستويات نوعية:

  • الاعتماد على نظام المقاطع ويسمي النظام الكمي.
  • ثم الإيقاع الكيفي، ويقوم على البتر في الجملة، أو الكلمة.
  • التنغيم، ويعتمد على أصوات الجمل، بين صعودها وانحدارها.

يقول ابن فارس: أهل العروض يجمعون على أنه لا فرق بين صناعة العروض، وصناعة الإيقاع، إلا أن صناعة الإيقاع، تقسم الزمان بالنغم، وصناعة العروض، تقسم الزمان بالحروف المسموعة، وقد نحا السيوطي، نحوه في هذا المجال. كما أن الخليل بن أحمد اكتشف الأساس الصوتي الذي بني عليه الشاعر العربي إيقاعه هو أساس بسيط، وقد وافقه على ذلك شكري عياد، حيث بني علي التميز بين السكون والحركة، أي أن تركيب الوحدات الصوتية، بما تشتمل عليه من حركات وسكنات، يشكل إيقاع القصيدة. لكن شكري عياد يقف هنا ويؤكد أن البساطة، هي بساطة خادعة، فإنه إذا شرع في تتبع النظام الذي تجري عليه الأوزان المختلفة من حيث تعاقب الحركات والسكنات، فقد تطالعنا أشكال بالغة التعقيد. وإذا كانت الوحدات الصوتية هي التي تشكل الأنظمة الإيقاعية للقصيدة، فإن عملها من هذه الناحية ممزوج، فهي تخلق بناءها الإيقاعي من ناحية، وتؤثر فيه كل واحدة بالأخرى من ناحية ثانية. أي أن تجاوز الوحدات الصوتية، وتجاوز الكلمات، يؤثر في تحديد قيمتها الإيقاعية ابتداء من أصغر وحدة صوتية ومرورا بالكلمة، في البيت الشعري ثم الإيقاع الكمي للقصيدة كلها. إذا الإيقاع الشعري بالغ التشابك، والتعقيد، حيث يتصل بالإمكانيات الكامنة التي تنطوي على الوحدات الصوتية من ناحية، ويتصل بالانفعال المتخلق في أعماق الإنسان من ناحية ثانية.

من ذلك فإن الإيقاع الشعري الموسيقي العربي “الكمي” هو الأصل، والفصل قبل العروض، ومميزاته الترقيم، وأفنانه الشعر، وألحانه، شرع به العربي في ترحاله ب-“الحداء” وأغنية الصحراء وأعقبه بـ “النصب” بنغماته الرقيقة، واشجانه العذبة التي تتوالى بفواصل زمنية، عند الجهد والهم والإعياء.  

وقد عرف “برتيل مالبرج” الإيقاع في الكلام، بأنه تقسيم الحدث اللغوي إلى أزمنة منتظمة ذات علاقة متكررة، وذات وظيفة وملمح جمالي. وفي رؤية أخري. “عن محمد سلطان الولماني في كتابه كتاب الايقاع في شعر التفعيلة” يقول: أما الإيقاع عند المحدثين من العرب فقد شاع عندهم مصطلح” موسيقا الشعر وقد عرف كمال أبو ديب الإيقاع بأنه الفاعلية التي تنتقل الي المتلقي ذي الحساسية المرهفة الشعور، بوجود حركة داخلية ذات حيوية متنامية، تمنح التتابع الحركي وحدة نامية عميقة، عن طريق اختفاء خصائص معينة علي عناصر الكتلة الحركية”. الخلاصة: من كل ما ذكرت به، من أقوال المهتمين، والمتخصصين في علوم الشعر العربي نؤكد أن اللغة الفعل ذات الارتباط بزمنيته ومكانه المحدد، تشكل إيقاعا بالغ التفوق في جمال النص، حيث قام الفعل بإنتاج لغته، وإيقاعها، بتشكيلات معرفية أخري، تساهم في تحليق النص في بناء متطور، حقق تجانسه الحالي واللغوي بتطور اللغة الفعل، وهي إضافة مهمة لزيادة مساحة القاموس العربي، الذي توقف تطوره أيضا بتوقف اللغة عند حركتها وسكونها في زمن واقف، وفي بناء تقليدي لم يضف شيئا عن فحول الشعراء على مر التأريخ العربي. وكان لهذا الإبداع الشعري الجديد وقد تعددت روافده من شعر تفعيلة، إلى الشعر الحر، إلى قصيدة النثر، إلخ ما أنتجته الشعرية العربية التي تطورت بتطور الفعل وتفوقه في حركية الزمن والمكان، وأثرهما علي هذا المنجز الشعري الجديد أيضا في لغته التي خرجت من شرايين هذا الفعل بتطور قاموسها، وتطور إيقاعها، وزيادة مساحتها. وكان يمكن أن تتفوق هذه الروافد الشعرية بشكل أكبر لو تجاور معها حركة نقد تسعي الي صياغة نص مواز يحدد ماهيته، وملامحه وروافد جمالياته حسب المعطي العلمي في مناهجه، وأيضا تطوره الموازي في الشعرية الأخرى في أوربا، وأمريكا الجنوبية، وغيرهما من خلال المتابعة النقدية العربية لحركة الشعر العالمي في تطوره، ومن الطبيعي ان يكون هذا التفوق الشعري الجديد علي حساب ما كان يعتمد عليه النظم الشعري الذي يعتمد علي نظم الحروف والكلام، في صنع شكل موزون، يعتمد علي صرامة الوزن، بشكل حسابي شديد الدقة، وهو ما عرفناه بصدر البيت، وعجزه، في القصيدة العمودية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى