حكايا من القرايا.. اليوم حابس

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

مطر غزير وبرد، ولا جار يستطيع أن يصل جاره، بسبب المطر والريح والبرد الشديد، وربما بسبب الثلوج والبَرَد.

من الصباح الباكر تروح الحجّة، تقحّر عن ساس الطابون، وتجيب الحطب اللي حطّته من المغرب، وقد أصبح جمراً، تشيله بالملقط، وتنقله في تنكة، إلى الكانون.
وترجع تكمل خبيزها بالطابون… ومرّات كانت تنتشل حبّات البطاطا المشوية من الساس، ومرات تشيل طنجرة الطبيخ من القحف، قبل الخبيز، وتكون الطنجرة تهبّل تهبيل…، وهبّالها طالع منها رغم برودة الطقس… يفتح الشهية رغم برودة الطقس.
يصلي الحج، ويضع دلّة القهوة على نار الكانون، كي يغلي ماؤها، ويضع في الجانب الآخر إبريق الشاي مقدمة للفطور… وتأتي الحجة بلكن العجين، وقد استحالت حمولته إلى خبز ساخن (مقمّر)، غني بالحفر من أثر رظف الطابون… وتبدأ بإشعال البريموس لسلق البيض والجبن، وتتهيأ السفرة لكسر الصفرة… وتتزين بالزيت والزعتر… والجبنة والشاي… والخبز المقمّر…
يستيقظ الأولاد… ويتناولون ما قسم الله لهم من فطور، ويلبسون ملابس المدرسة، ويستعدون للانطلاق إليها، حتى في الأيام الحابس لم تكن المدرسة تغلق أبوابها، ولم تكن كأيامنا هذه شوية هواء تغلق أبواب المدارس… لما تكون مطر كانوا ينتظرون قليلاً قبل الخروج… حتى تفجي، ويسرعون إلى مدارسهم… وعادة ما كان يظفرهم شوط مطري غزير، وتبتل ملابسهم وأجسادهم من الحصة الأولى، للحصة السادسة، وقد ينالون قسطا آخر من البلل أثناء عودتهم من المدرسة سيراً على الأقدام، وقد تكون مسافات طويلة… ويغبطهم الآباء، فيرددون على مسامعهم: والله اليوم انتو بنعمة، والله بقينا نروح على المدرسة حافيين بدون كنادر… ما شاء الله عنكم… وتتحلق الأسرة حول كانون النار الطينيّ المزيّن الألوان، تتعلل ليلاً، ويبدأ الراوي الجد أو الجدة، أو الأب في سرد حكايات الغرام، وقصص البطولة، وسِيَر العظماء، فتحضر حول الكانون الطيني مزين الألوان “قصيقصة، والشاطر حسن، وعنترة، والزير سالم، والزناتي خليفة” والحضور يترنمون في السماع، رغم تكرار الحكايات مرة تلو المرة… إنها معجزة الحكاية الشعبية، تظل خضراء، تؤتي أكلها، لا تجف ولا تنضب.
في يوم من الأيام الحابسة، انهالت سنسلة أبو إبراهيم الحجرية على خشّة عبد الحليم الصالح، وراح ضحية الحادث ست دجاجات بلدية وديك، وانقطع سيل البيض البلدي عن الأسرة… توقفت مقالي العجّة والقداحي… في ليلة حابسة، لم يُخرِج دار أسعد الخليل كانون النار من الغرفة، فانفحمت الأسرة بكاملها… دوخة ومراجعة وهزال… ولولا رحمة ربك لكانت النتيجة سيئة لا سمح الله… يا حرام يخرجون من الغرفة الدافئة إلى المطر والبرد مباشرة، فتستوطن اللفحات صدورهم، ويظبحون من القحّة والإنفلونزا، وتبقى الحوابس رحمة للغلّة… ورحمة لآبار الجمع… بل رحمة للحياة بأكملها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى