في رحاب مجرة العراقي جمال قيسي

ريم البياتي | سوريا

غرابة السؤال، وعدمية الجواب عن سر الحياة، هما مبعث كل أمر” من هنا تستطيع الولوج آمناً إلى مجرة جمال قيسي، حيث يشغله سر الحياة وجملة الافتراضات التي تحتملها الإجابة، والتي غالباً ما تقيد ضد مجهول

. نساء المجرة رواية تُسجل بامتياز على قيد الأدب الواقعي، والتي استطاع القيسي من خلالها أن يجمع كل مدارس الواقعية. فقد تكلم بلغة السارد الواعي العليم، الذي دخل إلى العمق السيكولوجي لشخصياته وحللها تحليلا دقيقاً، بعيدا عن المثالية، ومن دون أن يترك للخيال مساحة تُذكر، فقد كانت شخوصه كلها جزءاً من كلّ، تتداخل همومها وترتبط مصائرها بما يحيط بها.

 لم يتخلَّ عن هذا الدور لإحدى شخصياته، بل كان هو “جمولي” الصغير الذي لم يستطع رماد السنين أن يطمس ذاكرته، عرف كيف يمسك بخيوطه الحريرية المتينة التي ظلت طيّعة بسلاسة مدهشة، لم تفلت من بين يديه، إنما كانت تدور معه بتناوب سلس حميمي. لا بد في البدء أن تدخل محراب “أم عبد المنعم”؛ كوكب المجرة وشخصيتها الأساسية، تلك التي كانت” تدير مملكتها بصرامة، وعدالة ورفاهية” ” حيثما تكون فإن كل من حولها يكون في مأمن” تلك التي عرفت أن الصمت في غير أوانه خيانة. تحيط بها نجوم المجرة صديقاتها، نساء أحياء بغداد الطيبات اللواتي يعانين الكبت والحرمان في بيئة شرقية تقمّط الأنثى بالحرام منذ ولادتها وتسلط عليها سيف العيب في كل وقت، بينما يفر منه الرجال آمنين.

جمولي، الفتى الصغير الذي هو كاتب الرواية، والابن المدلل لأم عبد المنعم التي هي في الأساس زوج عمه، ولكنها أخذته من أمه وأبيه؛ لأن ليس لها سوى ولد وحيد شاب، تسير أحداث الرواية بتناغم مع خطى نساء المجرة، حيث يرسم لنا الكاتب من خلال ما يقع لهن من أحداث شخصية المرأة البغدادية ومدى تأثيرها في المجتمع .

نساء جمال القيسي ” مأزومات” يبالغن في ردة أفعالهن ويخرجن الكبت والحرمان الجاثمين على صدورهن منذ الولادة، وقد ظهر ذلك جلياً في مشهد الباص، وتعاطيهن بوحشية مع المتحرش، وليست صورة الرجال في مجرة جمال القيسي بأقل قسوة، فهم السادة الذين لا يعصى لهم أمراً، ربما الاستثناء الوحيد هو عمه أبو عبد المنعم ومردّ ذلك إلى حكمة الزوجة وحسن تدبيرها للأمور.

 في فصل ” الشعّار” يفضح القيسي الكبت والتوحش عند الرجل الشرقي فحينما يتعلق الأمر بالغريزة، تغيب الرحمة عن قلبه. يصور الكاتب المجتمع العراقي بكل تقلباته السياسية والاقتصادية التي تنعكس على حياة أبطاله وسلوكهم، وتبلغ الحبكة ذروتها لحظة اغتيال الزعيم عبد الكريم قاسم، حيث ” تحولت بغداد إلى بيئة محفوفة بالمخاطر؛ بسبب الأشقياء المجندين من قبل الانقلابيين”

بدأ عقد نساء المجرة ينفرط، بسبب التغيرات التي طرأت على عوائلهن، وتدخل الأبناء بقوة في التيارات والأحزاب الجديدة التي قسمت المجتمع كله بين مناصر لتيار معين ومؤيد لحزب آخر. كل ذلك أرخى بظلاله على العلاقات بين الناس وعلى نساء المجرة أيضاً.

لكنّ ” جمولي” ظلّ متوحداً بجدران ذلك البيت ومن خلاله بالنوافذ التي تطل على ذلك الزمن. استطاع جمال القيسي أن يشدنا بقوة من مقدمة الرواية إلى آ خر حرف، من دون أن نشعر بالملل، بل خرجنا بحنين لذلك الزمن الذي على الرغم من كل ما فيه كان جميلا تحية للمبدع جمال القيسي الذي تفوق وبارى في مجرته كبار النجوم، لم يكن بعيدا عن حنا مينه، ونجيب محفوظ في حميمية وصدق وبراعة السرد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى