مساهمة قطاع الأمن الفلسطيني في التنمية المستدامة

محمد زهدي شاهين | القدس العربية المحتلة

 

من اجل النهوض والسير في طريق التنمية المستدامة في أي بلد لا بد من توفر وتحقق شرط في غاية الأهمية يعد بمثابة حجر الاساس والأرضية الصلبة والمتينة لتحقيق التنمية في ذلك البلد. هذا الشرط هو توفر ووجود إرادة سياسية حقيقية. وبتحقق هذا الشرط يمكننا بعد ذلك العمل على حلحلة واجتياز كافة المعوقات والعراقيل التي تقف حائلا دون تحقيق التنمية المستدامة في كافة القطاعات المختلفة في الدولة ضمن الإمكانيات المتاحة.

في حالتنا الفلسطينية المعقدة والفريدة لأسباب مختلفة من أهمها الاحتلال وسياساته التدميرية لا بد لنا من إعادة ترتيب أولوياتنا ووضع آليات من اجل النهوض و تحقيق التنمية المستدامة في فلسطين، فقد اظهرت نتائج استفتاء لجهاز الاحصاء المركزي الفلسطيني تم نشره في نهاية النصف الثاني من عام ٢٠١٩م بأن ٨٦% من الفلسطينيين اختاروا القضاء على الفقر كأول الاهداف والأولويات التي يجب تحقيقها خلال السنوات العشر المقبلة. فيما حل بالترتيب الثاني من ضمن الأولويات خيار الحصول على التعليم الجيد بنسبة ٨١%، وحل في المرتبة الثالثة من الأولويات الحصول على الرعاية الصحية الجيدة والرفاه بنسبة ٨٠% ممن شملهم الاستفتاء، وحل رابعاً الحصول على العمل الجيد واللائق ونمو الاقتصاد بشكل عام.

العلم يبني بيوتاً لا عماد لها

والجهل يهدم بيوت العز والكرمِ.

 لهذا يجب أن يكون التعليم في أعلى سلم أولوياتنا من خلال الاهتمام بجودة التعليم في كافة المستويات وبشكل خاص في المراحل الاساسية، اضافة إلى ذلك يجب تحسين رواتب المعلمين، ويجب العمل على بناء غرف صفية وبناء المدارس من اجل تقليل الاكتظاظ في الصفوف المدرسية، واشتراط الحصول على درجة الماجستير لمدرسي هذه المرحلة الاساسية لأهميتها في صقل وبناء المورد البشري، أو بأن يتم تحديد سنوات خبرة معينة لمن يتم تعيينهم لتعليم هذه الفئة العمرية. مع ضرورة اضافة منهاج دراسي جديد لكافة المراحل الدراسية يُعنى بِالحكمة والموعظة الحسنة و القيم الاخلاقية الفاضلة ويحث على التسامح الديني من اجل أن تكتمل معادلة مفهوم التربية والتعليم، فمن اجل الوصول لجيل واعد وغد مشرق يجب علينا أن نبدأ منذ هذه اللحظة، فالتعليم في الصغر كالنقش في الحجر.

في الترتيب الثاني من ضمن الأولويات يجب علينا الاهتمام بالقطاع الصحي من اجل تحسين الخدمات المقدمة للمواطنين والعناية بصحة المواطن بشكل اكبر، وفي هذه المقالة سأتطرق إلى إحدى السبل المؤدية لتحقيق هذا الأمر. وبالتوازي مع ذلك يجب الاهتمام بالتنمية الاجتماعية من اجل توفير الحياة الكريمة للأسر الفقيرة جداً، والاهتمام بشؤون المرأة الفلسطينية وتذليل كافة العقبات والمعوقات التي تقف حائلاً دون تمكنها من أخذ دورها الطليعي في مجتمعنا الفلسطيني، فالمرأة والأم بشكل خاص مدرسة إن أعددتها أعددت شعباً طيب الاعراقِ، وهي نصف المجتمع.

في الترتيب الرابع من ضمن الأولويات الفلسطينية يجب علينا الاهتمام بالقطاع الزراعي الفلسطيني مع العلم بأن مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الاجمالي بلغت ٣% فقط وفقاً لبيانات جهاز الاحصاء الفلسطيني لعام ٢٠١٨م. لكن ما يميز هذا القطاع وجود بعدين بالغي الأهمية، البعد الأول بعد اقتصادي لحماية هذا القطاع من الاندثار والتلاشي ومن اجل زيادة مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي ، ولمقدرته على استيعاب الآلاف من الأيدي العاملة وبالتالي مساهمته في تقليل نسبة البطالة والفقر في فلسطين.

أما البعد الأخر فهو بعد وطني من اجل المحافظة على الأراضي الفلسطينية وحمايتها من المصادرة والاستيلاء عليها من قبل الاحتلال وقطعان المستوطنين ويتأتى ذلك من خلال استصلاحها واستثمارها، وخطة العنقود الزراعي التي وضعتها الحكومة الفلسطينية ورصدت لها الميزانيات وباشرت العمل بها هي خطوة في الاتجاه الصحيح، ويجب الا يغيب عن اذهاننا أيضًا بأن الأرض هي محور وجوهر الصراع الفلسطيني مع الاحتلال.

والأولوية الخامسة يجب أن تنصب في دعم قطاع الصناعات إذ يعتبر هذا القطاع من ناحية الأهمية القطاع الثاني بعد قطاع الخدمات مساهمةً في الناتج المحلي الاجمالي. فقطاع الصناعة يعتبر من القطاعات الهامة والمؤثرة في دعم عجلة التنمية الاقتصادية والتنمية المستدامة بشكل عام، ويساهم بشكل كبير في ايجاد حلول فعالة لمشاكل الفقر والبطالة.

لهذا يجب تبني استراتيجية التصنيع المحلي والبدء باستراتيجية إحلال الواردات سهلة التصنيع التي لا تحتاج إلى تكنولوجيا عالية في التصنيع، وبالتوازي مع ذلك تبني استراتيجية التصنيع من اجل التصدير لزيادة نسبة الصادرات من اجل تخفيف العجز في ميزان المدفوعات والتركيز في هذه الاستراتيجية على دعم الصناعات الاستخراجية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة. لذا لا بد من العمل على تحقيق نمو اقتصادي مستدام من خلال تأسيس بنية تحتية وقاعدة لتطوير الصناعات تشمل القطاعات الصغيرة والمتوسطة، والعمل على تقديم المنح الميسرة للشباب وفق خطط مدروسة حسب احتياجات السوق المحلية.

وفي هذا الصدد لا بد من التئام الجرح الفلسطيني ورأب الصدع الداخلي، والانتخابات التشريعية المزمع عقدها في أيار القادم والرئاسية والمجلس الوطني تأتي في ضمن هذا السياق من اجل انهاء الانقسام الفلسطيني ليتم بعد إذن العمل على تطوير قطاع غزة من خلال تركيز انشطة صناعية مختلفة، ومن اجل إعادة بناء مطار غزة بالسرعة القصوى، والعمل على إقامة ميناء تجاري في القطاع تحت إشراف الأمم المتحدة إن أمكن ذلك، فغزة هي ملاذ الفلسطينيين إلى حد كبير للانفكاك عن الاقتصاد الاسرائيلي، وتركيز الانشطة الصناعية فيها يعزز من فرص نجاح الخطة التي وضعتها الحكومة الفلسطينية برئاسة دولة رئيس الوزراء محمد اشتيه، والتحرر من اتفاقية باريس ولو بشكل جزئي. وبما يخص خطة فك الارتباط أحادية الجانب التي نفذتها الحكومة الاسرائيلية في صيف عام ٢٠٠٥م يجب استثمارها سياسياً واقتصادياً للمصلحة الفلسطينية.

صندوق الاستثمار (صندوق التنمية)  لقوى الأمن الفلسطينية:

اقدم هذا المقترح الذي سيسهم دون ادنى شك في اخذنا في الاتجاه الصحيح نحو المساهمة الفعالة في تحقيق التنمية المستدامة في فلسطين ضمن امكانياتنا المتاحة. هذا المقترح بحاجة بالدرجة الأولى إلى إطار قانوني ناظم ليتجسد واقعاً ملموس، هدفه الرئيس استقلالية موازنة الأمن الفلسطيني عن الموازنة العامة، أو على اقل تقدير تقليل نسبة النفقات من الموازنة العامة على قطاع الأمن الفلسطيني ما امكن من خلال اعتماد موازنة قطاع الأمن على إيراد صندوق الاستثمار العسكري، من خلال وضع خطة طويلة الامد من عشرة اعوام إلى خمسة عشرة عاماً كحد أقصى.

فمن اجل وصف الدواء والعلاج المناسب لا بد من أن تكون هناك عملية تشخيص صحيحة ودقيقة لتحديد المشكلة التي نواجهها ليسهل بعد ذلك ايجاد الحلول المناسبة. لهذا لا بد من توجيه الانظار نحو الموازنة العامة للدولة، فهي ليست مجرد اداة محاسبية مجردة تتقابل فيها الايرادات والنفقات العامة فقط، بل هي من أهم الادوات المالية في الدولة وهي خطة مالية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاقتصاد الكلي فيها، وهي وسيلة من وسائل الدولة التي تسعى من خلالها إلى تحقيق برنامجها السياسي من خلال اعتماد سياسة مالية حكيمة تتضمن برامج تنموية من اجل الوصول إلى التنمية المستدامة.

عند الاطلاع على الموازنة العامة الفلسطينية نلاحظ  ضآلة النفقات التطويرية على الرغم من أهميتها التنموية في مقابل ارتفاع سقف النفقات الجارية وفي مقدمتها نفقات الرواتب لموظفي السلطة الوطنية الفلسطينية بشقيها الأمني والمدني.

ما يعنينا هنا هو النفقات الكبيرة على قطاع الأمن الفلسطيني والعمل الجاد من اجل تغيير الصورة الذهنية التي تولدت عند الكثير بأن موازنة قطاع الأمن الفلسطيني هي عقبة وعائق أمام تخصيص نسبة اعلى من الموازنة العامة على قطاعات تنموية اخرى في فلسطين.

عند مراجعة الموازنة العامة خلال السنوات الماضية نلاحظ انخفاضاً مستمراً في نسبة الموازنة المخصصة لقطاع الأمن الفلسطيني من مجمل الموازنة العامة ، حيث بلغت في عام ٢٠١٣م ٢٨% وانخفضت إلى ما يقارب ٢٣% في موازنة عام ٢٠١٨م، وهذا عائد لعدة سياسات قامت بها الحكومة الفلسطينية من ضمنها قانون التقاعد المبكر الاختياري والقسري على الموظفين العسكريين. وهنا لا بد من التنويه إلى الأخذ بعين الاعتبار التوصيات التي توصلت إليها الورقة البحثية التي قام بها الائتلاف من اجل النزاهة والمساءلة (أمان) عام ٢٠١٧م، تحت عنوان فجوة الرواتب في الوظيفة العمومية ، الواقع والإجراءات المقترحة لردمها.

وفقًا لتقرير قام بنشره الائتلاف من اجل النزاهة والمساءلة (أمان) عام ٢٠١٩م، تحت عنوان إشكالية توزيع الرتب على العاملين في قوى الأمن الفلسطينية، فإن عدد أفراد القوى الأمنية الفلسطينية تقترب من ٦٦ ألف عسكري. وهذا المقترح يعمل على تقسيم هذا العدد إلى ثلاث فئات وفقًا للرتب العسكرية. بحيث ينص على اقتطاع نسبة معينة من الراتب الاساسي -مع بقاءه ثابتًا- من كل فئة لمدة خمسة سنوات على الأقل من أجل تكوين رأس مال لصندوق الاستثمار العسكري في مقابل حصول أفراد ومنتسبي القوى الأمنية الفلسطينية على رزمة من الامتيازات في أي مجال استثماري لصندوق الاستثمار العسكري.

والفئات هي كالتالي:

١_ الفئة الأولى تضم الرتب العسكرية التالية: عقيد، عميد، لواء. وتكون نسبة الاقتطاع من هذه الفئة ١٥% ، من الراتب الاساسي.

٢_ الفئة الثانية تضم كل من : ملازم أول، نقيب، رائد، مقدم. وتكون نسبة الاقتطاع من هذه الفئة ١٠% ، من الراتب الاساسي.

٣_ الفئة الثالثة تضم كل من الرتب التالية: جندي، عريف، رقيب، رقيب أول، مساعد، مساعد أول، ملازم. وتكون نسبة الاقتطاع من هذه الفئة ٧% ، من الراتب الاساسي.

بحيث تكون نسبة الاقتطاع من رتبة لواء على سبيل المثال كالتالي: الراتب الاساسي في ١٥%  في مجمل من يحمل رتبة لواء البالغ عددهم وفقًا للتقرير ٢٠٠ لواء، فيكون المبلغ الاجمالي ١٢٠٦٠٠ شيكل. وبهذه الطريقة تكون نسبة الاقتطاع الاجمالية من كافة الفئات تقريبًا ١١٥٠٠٠٠٠ احد عشر مليونًا شهريًا، بالإضافة إلى ضرورة توفير مبلغ ثلاثة ونصف مليون شيكل من خلال ترشيد النفقات العسكرية، فالقدرة على ضبط النفقات وتحجيمها كبيرة جدًا كونها شأن داخلي يمكن التحكم به بدرجة كبيرة، وبهذا يكون المبلغ الاجمالي الشهري المحول لصندوق الاستثمار العسكري ١٥٠٠٠٠٠٠ مليون شيكل، وفي خمسة أعوام يكون قد تم توفير مبلغ وقدرة بالحد الأدنى ٩٠٠٠٠٠٠٠٠ تسعمائة مليون شيكل يتم استثمارها كالتالي:

١_  في قطاع الصحة لبناء مدينة طبية في فلسطين خلال الأعوام الثلاثة القادمة من اجل وقف التحويلات لإسرائيل والخارج  من خلال رصد مبلغ  ٢٥٠٠٠٠٠٠٠ مليون دولار موزعة كالتالي ١٥٠٠٠٠٠٠٠ مليون دولار من صندوق الاستثمار العسكري ذو الشخصية الاعتبارية كأحد المستثمرين الفلسطينيين بالإضافة إلى مائة مليون تقدمها الحكومة الفلسطينية كونها شريك يساهم بنسبة ٤٠% من مجمل المبلغ المرصود.

ويكون لأفراد ومنتسبي القوى الأمنية الفلسطينية وذويهم جناح خاص مع تغطية طبية شاملة.

٢_ الاستثمار في قطاع الطاقة خاصة في قطاع الطاقة البديلة ، فالاستثمار فيها مجدي اقتصادياً. لهذا يجب اقامة محطة لتوليد الطاقة في الضفة الغربية وأخرى في قطاع غزة، وإن تعذر ذلك يجب إقامتها بالشراكة مع الدولة المصرية في سيناء.

ولا بد من التنويه هنا ايضًا بأنه يتوجب على الحكومة الفلسطينية أن تضع في نصب أعينها عمل دراسة جدوى لإقامة مصفاة بترول بالشراكة مع الدولة المصرية بالقرب من قناة السويس، مستغلين بذلك موقع القناة الاستراتيجي، وموقع فلسطين في منطقة اقليمية عائمة على بحر من الذهب الاسود، ومستغلين التسهيلات التي تقدمها الدولة المصرية للمستثمرين من خارج مصر، وهذا الموضوع يجب أن يتولاه صندوق الاستثمار الفلسطيني، ومن جانب أخر يجب إعادة العمل على تفعيل قضية الضمان الاجتماعي والعمل على تعديله لاستثمار بعض الاموال منه في هذا الجانب.

٣_  في قطاع التعليم من خلال العمل على بناء مدرسة عسكرية في كل منطقة مصنفة كمدينة فلسطينية لاستيعاب ابناء افراد ومنتسبي قطاع الأمن وابناء الشعب الفلسطيني ، ومن الافضل فرز حملة الشهادات الجامعية من العسكريين للتدريس في هذه المدارس بعد أن يتم تدريبهم وتأهيلهم لهذه المهمة مما يقلل من العبء الملقى على كاهل وزارة التربية والتعليم، أو وضع آلية مناسبة لذلك، مع خضوع هذه المدارس لإشراف الوزارة المباشر.

٤_ الاستثمار في قطاع الإنشاءات مع رزمة تسهيلات لقطاع الأمن الفلسطيني.

٥_ الاستثمار في قطاع التجارة بإقامة مجمع تجاري في مركز كل مدينة فلسطينية.

٦_ الاستثمار في قطاع الزراعة من خلال انشاء وحدة هندسة زراعية.

ولا بد من أن يكون هناك ايضًا توعية ثقافية وإعلامية لمحاربة بعض المصطلحات كمصطلح شطري الوطن الذي يتم تداوله في اواسط الفلسطينيين.

مما لا شك فيه بأن الواقع الفلسطيني معقد إلى حد كبير بفعل وجود الاحتلال الاسرائيلي، فهو اكبر معيق وتحدي امامنا نحو تحقيق نمو اقتصادي حقيقي وتنمية مستدامة شاملة. لهذا لا بد أن تكون هذه المقترحات جزء لا يتجزأ من ضمن خطة سياسية شاملة تأخذ في عين الاعتبار وضع قضية الافراج عن الاسرى الفلسطينيين في سلم أولوياتها، أو خارطة طريق فلسطينية مدروسة بشكل جيد يتوافق عليها الكل الفلسطيني كما أشرت إليها في مقالات سابقة.

٢٣/١/٢٠٢١م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى