القرآن وتذوق الجمال

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

لقد عُلِمَ من الطبع البشري أن الحق المحض له ملالة وربما صعوبة على النفس في تلقيه.

لذا فقد نزل القرآن حاويا من التنوع في الخطاب الدعوي، ومن الأسلوب البلاغي المتفرد إلى أسلوب الحقائق العلمية المبهرة، إلى الوعد والوعيد؛ ثم غاص إلى كوامن النفس الإنسانية فأيقظها، وإلى غرائزها الفطرية المحببة المقربة فخاطبها وأثارها وذكرها بخالقها من زاوية محببة مقربة. ومن هذه الغزائز (حب الجمال)، واسترواح النفس معه والركون إليه مما يطرب النفس، وينعم الفؤاد ويعلي قامة الشعور ويحي في الإنسان مقومات الإنسان التي توارت بين موروثات الجاهلية الأولى وقد طغت على روحه المادية والمنفعية والطبقية والعرقية؛ فجاء القرآن يرده إلى عهد فطرته الأولى، وينتشله من ركام الفلسفات والموروثات.

ومن أعلم بدقائق تكوينات هذه النفس وأسرارها إلا من خلقها؟!!، فجعل لغة التوقف والاعتبار عند مواطن الجمال ومظاهره وإعجازه وموقعه من النفس حين تنفعل به، جعل كل هذا دلالة على التوحيد الخالص والذي لا ينكره النظر ولا يخطئه، ولا ترفضه النفس ولا تجحده إذا سلمت من دخائل الشيطان والكبر ودخائن العوارض التي تشوب فطرتها.

وقد نرى ذلك واضحا في أكثر من آية وبأكثر من وصف حتى لا ينكر السمع وقعه وانفعاله به كما لا ينكر النظر آيته الطبيعية البينة، فتفعل الآية القرآنية فعل الآية الكونية المخلوقة أو أكثر، إذ أن لوقع القرآن طلاوة وحلاوة حتى مع غير أهل العربية، إذا لم يعرض من سوابق القدر ما يحول بين النفوس وبين الإصغاء والاستملاح، أو من شوائب الفطر ما يجعل وقع القرآن عليهم كالعمى أو الصواعق المهددة والمزلزلة.

ومن هذا التوقف عند مواطن الجمال قوله تعالى: ” أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)”[النمل].

والبهجة: هي حسن المنظر الذي تطرب له النفس من السرور والفرح الذي يوقعها فيه الجمال.

إن هذا الخلق المبهر المستوقف لكل ذي لب ومن كان له قلب، المستعظم لمن يراه فينفعل بجلال خلقه لا يخلو هذا الخلق من الجمال المستحث للنظر، وقد جمل بين المهابة والجلال والجمال، كما قال تعالى “لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس”، “وجعلنا فيها رواسي شامخات” .

فقد جعل الحدائق ذات بهجة تطرب النفس والنظر، تجمع بين جمال الخلق واللون والرائحة ثم الطعم، وقد تترك في النفس جمالا وسعادة وانسجاما لما تحوي من النضار والخضار والينوعة والعذوبة، ثم يتحدى بها خلقه ليعلموا أن لهذا الجمال دلالة على وحدانية خالقه؛ فأنتم لا تستطيع أن تصيغ أيديكم شيئا من مكوناته حتى لو كنتم شركاء في حرثه فلا تعلموا عن إخراجه ولا إنباته شيئا “أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)”[الواقعة ].

بل أنتم عاجزون كذلك عن حفظه أو استمراره بعد خروجه ونضوجه “لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65)” [الواقعة].

وفي قوله تعالى”وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6)”[النحل]، قال القرطبي”وَجَمَالُ الْأَنْعَامِ وَالدَّوَابِّ مِنْ جَمَالِ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ مَرْئِيٌّ بِالْأَبْصَارِ مُوَافِقٌ لِلْبَصَائِرِ. وَمِنْ جَمَالِهَا كَثْرَتُهَا وَقَوْلُ النَّاسِ إِذَا رَأَوْهَا هَذِهِ نَعَمُ فُلَانٍ، قَالَهُ السُّدِّيُّ. وَلِأَنَّهَا إِذَا رَاحَتْ تَوَفَّرَ حُسْنُهَا وَعَظُمَ شَأْنُهَا وَتَعَلَّقَتِ الْقُلُوبُ بِهَا، لِأَنَّهَا إِذْ ذَاكَ أَعْظَمُ مَا تكون أسمنه وَضُرُوعًا، قَالَهُ قَتَادَةُ. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَدَّمَ الرَّوَاحَ عَلَى السَّرَاحِ لِتَكَامُلِ دَرِّهَا وَسُرُورِ النَّفْسِ بِهَا إِذْ ذَاكَ.”

هذا الجمال الذي تطرب له النفس من عطاء المال والغنى وما قد يثير فيها من دواعي البطر والفرح كما في قصة قارون “إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين”، وفي قوله “والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزنية” هذه الزينة التي تعتري النفس من جراء امتطائها وقد تجر إلى الفرح والبطر، إذ هي في نفسها زينة، وزينة في ركوبها، وزينة في امتلاكها، وزينة في النظر إليها والتمتع بها.. وكذا الجمال يعلوها حين تركب، وحين يحمل عليها المتاع وفي الغدوة والروحة؛ وفي فطرة حب المال الذي جبل عليه الإنسان “وتحبون المال حبا جما” وقد حبب المال إلى النفس ،كما حبب إليها التمتع بالنعم.

“وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)”[الأنعام].

“وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10)”[ق].

وأما هذا الحب المتراص المتراكب المتناسق العجيب الذي جمع بعضه إلى بعض، وبعضه فوق بعض محفوفا محفوظا في السنابل وفي أكواز الذرة وفي الرمان، وهذه العناقيد الدانية المدلاة من الأعناب والطلع وثمر النخيل الذي يتفاضل بعضه على بعض، ويقدم بعضه على بعض مع أنها تسقى بماء واحد وتنبت من بساط واحد (الأرض)؛ وهذا التنوع والتعدد والتفرد في اللون والطعم  والرائحة كذلك في هذه الشجرة المباركة (الزيتونة) وما تفيض به من الينوعة والطراوة والنضارة..

أي قلب يصرف، بل أي عين تنكر، بل أي فم يمرر؟!! فينكر كل هذا الجمال الذي صيغ وصنع في هذه اللوحة الفنية الكونية التي ما زال يشدو بذكرها البر والفاجر والمؤمن والكافر، ويجد في وصفها ومحاكاتها كل شاعر ملهم، وكل رسام عبقري، وكل أديب ألمعي.. ويهيم في ربوعه كل صب مفتون، ويدنو من قطافه كل محروم.

في كل هذا وذاك وغيره آيات بينات قاطعات تأخذ بلباب العقل، وتدني قناعة النفس، وتثير كوامن الفطرة الموحدة.. فإن بهت العقل في خطابه وحاد عن طريق صوابه، فلن ينكر ذلك الشعور والفطرة والذوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى