حكايا من القرايا.. ” أبو الكراديش “

عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين

حدثني عيسى الناطور، عن والده سعيد الناطور، عن جدّه قال:
أخذتني زوجة أبي ونيساً لها في الطريق لزيارة بيت أهلها في قرية بعيدة، مشينا على الأقدام أكثر من ساعة ونصف حتى وصلناها، نصف المسافة كانت هبوطاً إلى منطقة سهلية، ونصفها الآخر صعوداً في ممرات جبلية… فعلاً ذقنا الأمرين ونال منا التعب حتى وصلنا… وزوجة أبي تحمل هدية لأهلها، كانت تحمل سدراً على رأسها، وأنا أحمل بقجةً في يدي، ولا أعلم شيئاً عما تحمله، ولا أعلم شيئاً عما أحمله…
ربنا الله، احترمونا الجماعة، وأجلسونا على حصيرة جديدة، تناولوها عن ظهر الخزانة، حلّوا لفتها، وفردوها، وفردوا فوقها فرشة صوف ثقيلة، ومسنديْ قش، ووسائد، طُرّز على وجوهها رسمة لعصفورين، وتحتهما كلمات أظنها ” أهلاً وسهلاً…”
كنت أجلس مستمعاً، بعد أن أجبت عن أسئلة اللقاء والضيافة التقليدية… وكلما تحركتُ، ترمقني زوجة أبي نظرة تقطع بها قلبي… إنها تريدني أن أكون مؤدباً في دار أهلها، ضيفاً خفيفاً، لذا عندما قدموا لها القهوة، قالت لهم: إنه لا يشرب القهوة، وعندما استعدوا لصنع الشاي لي، أجابت نيابةً عني: لا، إنه لا يحب الشاي… وبقيت ابن ظرّة كالمسجون، جائعاً… محبوساً، لا أستطيع الحركة… ولم أجد في تلك الساعة صبياناً بعمري، أتحدث معهم، وأقضي الوقت معهم…
من الطابون جاءتني رسائل شهية، وجوعي جعلها شهيةً أكثر، ذهبت خالتي (زوجة أبي) وأختها يخبزن (التشراديش) الكراديش، وكانت( تشراديش) مُبَصَّلة، ففاحت رائحة البصل من كل فجّ… وما أزكى رائحة البصل تهاجم أنف جائع… ثم تلتها رائحة أقراص الحِلبَة، ما أزكى الرائحة، والقرص يخرج من الطابون، ويبلل بالماء، حتى يطرى… ومصاريني تتلوّى من الجوع وتتقطع، وزوجة أبي، تعترض كل مأكول أو مشروب يعرض عليّ…
حرّكني الجوع، فوقفت، سرت على يمين الباب، كان هناك شباك خشبي، فتحته، يا لروعة ما رأيت! دخان الطابون يعلو ويتمازج مع الروائح الزكية، وسدران، أحدهما للتشراديش المبَصّلة، والثاني لأقراص الحلبة… رأيت باباً يبعد عن باب الطابون أمتاراً قليلة، خُيّل إليّ أنه باب نجاة… ورأيت سوراً يضم الحوش الكبير… وهنا بدأ الجوع يغزل حكايته، وينسج أحلى قصة تمرّد… نظرت جانبي، فوجدت شرشفاً يغطي الفراش في خزانة الفراش الطينية، نزعت الشرشف وانطلقت، فردْت شرشفي، وهاجمت التشراديش والأقراص، كنت غاضباً جائعاً والشرر ينطلق من عينيّ… نهبت نصف السدرين إن لم يكن أكثر، حملت بقجةً من الغنيمة، وانطلقت هارباً من البيت، وبعدما قطعت مسافةً بعيدةً عن البيت، صادفت مجموعة من الأولاد يلعبون ( سبع احجار) قلت لأحدهم: اذهب إلى دار أبو فلان، وقل لهم: أبو الفوارس رَوّح… رَوّح… انطلق الولد بعد أن نقدته نصف قرص حلبة، آملا أن تراه مؤدبتي (زوجة أبي)، وكأن ما بيد الولد يشير لي، ولعلها تغتاظ وهو يأكل حلبة أهلها… وانطلقت هابطاً الممرات الجبلية… وأنا أكرر:
بحبش) الشاي… توكل قراص… بحبش القراص… تشرب… بحبش… توكل بحبش)
والله حبِّك البين والنّيا ان شا الله… حبّك برص وعشرة خرس… بيوم نحس يا رب…
في نصً الجبل، وتحت صخرة كبيرة، ناديت راعييْ غنم كانا في المكان، أتياني سريعاً، وهناك خضنا أكبر معركة بيننا وبين التشراديش والأقراص. كانت تجربةً ممتعةً، ومن تلك الحادثة ولقبي (أبو التشراديش)…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى