قراءةٌ في رواية (عرگشينة السيّد) للكاتب والروائي سلمان كيوش
عليّ جبّار عطيّة | رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية
حين يكون الجسر شاهداً وصندوقاً أسود
(إعلانُك الحبّ يعني استعدادك الواسع لأن تنسى الإساءة، وأن تُقبل على الحياة بلا شروطٍ مسبقةٍ وأن تضمن انتصارك فيها) ص ٨٢
يُحيلنا عنوان رواية (عرگشينة السيّد) للكاتب والروائي المبدع الدكتور سلمان كيوش الى معنىً يتبدد ما إنْ تقرأ أولى صفحات الرواية الطافحة باللغة الشعرية، والعذوبة والحنان، والحكاية الواقعية محتملة الوقوع فهي حكاية حبٍ بامتيازٍ تجمع بين رجلٍ محدود الدخل و ناضجٍ ـ أو هكذا يفترض أن يكون ـ وفتاةٍ جميلةٍ ثريةٍ.
يقول الكاتب : (أجمل ما في الحب هو هذا الاستعداد الغريب للتضحية الذي يصل لمديات مغامرة لن تجدها في عاطفةٍ أو انفعالٍ آخر).ص ٢٠٠ ويتبادر الى الذهن عند قراءة عنوان الرواية أنَّه سيكون أمام عملٍ ساخرٍ من رجل دينٍ مزيفٍ أو شخصٍ متناقضٍ، لكنَّ هذا الشعور يتبدّد رويداً رويداً حين يسترسل الراوي (سلمان الفريجي) طالب الدراسات العليا في اختصاص علم النفس في بيان علاقته بالسيّد (هاني الناجي) الذي تعرف إليه لدى مراجعته دائرة الأحوال المدنية في محافظة ميسان فالسيّد الناجي هو الذي وقع بصره على سلمان الفريجي، وتوسَّم فيه أن يكون مستمعاً أميناً لقصة حبه وموثِّقاً لها ليبتدىء الراوي من خطأ موظف دائرة الأحوال المدنية الذي وضع نقطةً على حرف الحاء في اسم إمّه (حوشية) لتصبح (خوشية) في هوية الأحوال المدنية وحين قدمها الى موظف التسجيل في الكلية في بغداد عند تقديمه إلى الدراسات العليا، فتكون هذه النقطة سبباً في ذهابه إلى محافظة ميسان لتصحيح الاسم، وفرصةً للتعرف الى السيّد هاني الناجي الذي كان يراجع الدائرة، فيقترح عليه أن يقوم بتضيّيفه في بيته، والقيام بعمليةٍ صغيرةٍ غير قانونية يحذف فيها النقطة الزائدة بمساعدة أحد الموظفين، ويختم فوقها ليكون هذا الحدث مفتتح الدخول الى عالم السيّد الناجي، وزوجته العلوية، وابنته المريضة خديجة ثمَّ حبيبته مجهولة الاسم الطالبة في معهد المعلمين.
يصرّح السيّد هاني الناجي للراوي سلمان الفريجي أنَّه وقع في ماء محبة حبيبته منذ أول نظرةٍ رآها على الجسر برغم أنَّه رجلٌ متزوجٌ وفقيرٌ، وهي من عائلةٍ ثريةٍ ويُعلّل ذلك بالقول : (أن تُحب فهذا يعني حيازتك للدين والإنسانية، وجمال روحك حوزاً نهائياً، ويعني أنَّ محاسنك كثيرةٌ، وأنَّك جديرٌ بالحياة. إعلانك الحب يعني استعدادك الواسع لأن تنسى الإساءة، وأن تُقبل على الحياة بلا شروطٍ مسبقةٍ وأن تضمن انتصارك فيها..) ص٨٢
يظل اسم الحبيبة مجهولاً برغم حضورها القوي المهيمن على الرواية، ويظل القارىء في انتظار ما تسفر عنه الحكاية، يقول الناجي: (انتظار المطر أجمل بكثير من هطوله. المطر كالآمال، انتظارها ألذُّ من تحققها)ص ٧٢
ويُمكن القول : إنَّ الجسر الذي رأى فيه السيّد حبيبته أول مرة، وظل يلتقيها عليه هو بطلٌ محوريٌّ لم يغادر أحداث الرواية فهو لم يكن جسراً كونكريتياً جامداً بل هو شاهدٌ حيٌّ على حبٍ فريدٍ من نوعه يعبر بالمحبين من العتمة الى النور كما أنَّه شهد على تعرض السيّد الى ضربٍ مبرحّ من أهل حبيبته أدى به الى المكوث في المستشفى عدة أيام مع فصله عن حبيبته، وتزويجها من ابن عمها فضلاً عن كون الجسر ملهماً للذكريات التي تنثال على السيّد هاني الناجي وهو يقص حكايته على سلمان الفريجي ويكون الجسر أخيراً هو الشاهد الوحيد على سرٍّ لم يكشفه الراوي وهو غرق السيّد في النهر بعد حزنه بأيامٍ على وفاة ابنته خديجة ذات الأعوام العشرة برغم أنَّ السيّد كان يتساءل: ( لا أدري لِمَ نصر على أن ننزف الحياة ولا نعيشها ؟) ص١٢٥.
لقد نجح الكاتب في إعطاء رمزيةٍ معينةٍ لغطاء الرأس (عرگشينة السيّد) بما تحمله من دلالاتٍ خاصةٍ، وقد انتقلت ملكيتها الى الراوي لتكون دليلاً على بقاء جذوة حكاية الحب الى مَنْ يرويها بأمانةٍ.. يقول السيّد هاني الناجي لسليمان الفريجي : (حسناً فعلت لأنَّك لم تعطني العرگشين برغم أنَّها ليست بذات شأنٍ ، لكنَّ وجودها عندك يمنحني احساساً بالأمان والامتداد في الوجود.) ص ٢١٨
اعتمد الكاتب على راوٍ واحدٍ يُدّون الحكاية، ويتمنى ايصالها الى صاحبة الشأن ويعطي الفرصة للراوي البطل وهو السيد هاني الناجي ليروي حكايته بمدونةٍ أخرى فنحن أمام مدونتين كتبتا بلغةٍ شعريةٍ فياضةٍ، أما الحوارات فاستخدم الكاتب فيها بإتقان جملاً خاصةً باللهجة الجنوبية المحببة.
أما زمن الرواية فهو سنوات الثمانينيات وقد غابت عنها الحرب والسلطة الغاشمة إلا في إشارة وردت ص ١٥١و ١٥٢ حين حضر بعض مسؤولي الحكومة والحزب إلى احتفالٍ أقامه معهد المعلمين بعيد المعلم وأنَّ أحد المسؤولين خصَّ حبيبته بجائزة أفضل معلمة واعدة وهي برغم ثرائها تقول : ( ليس الفقر من يملك القليل، بل هو من يشتهي الكثير) ص١٣٧.
*رواية (عرگشينة السيّد) للكاتب والروائي الدكتور سلمان كيوش ـ دار قناديل للنشر والتوزيع ـ بغداد ٢٠١٩ عدد الصفحات ٢٥٠ صفحة من القطع المتوسط.