أم وليد.. دموع القهر
فايز حميدي | شاعر وكاتب فلسطيني مغترب
ذلك الشبشب المرمي على قارعة الطريق أمام فرن الشوام، المقابل لصيدلية أبو عفار في حي التضامن الدمشقي …هزني من الأعماق ،وأعادني إلى رشدي، شبشب ممزق له طرة حمراء ،شبشب مخلص لا يزال يحتفظ بشكل قدم سيدته ..
هذا الشبشب الأكثر شفقة من الروح البشرية لم ينس بعد القدم الحبيبة التي طالما تعذبت…
اعتدت على زيارتها في صيدليتها …
ذات مساء كانت تمطر ببطء ، واتحدت السماء بالارض بحنان لا متناه …رأيتها حائرة ، هائمة الذهن ، كأنها شبح باهت لا روح فيه ، هالني ما رأيت من حالها ، فقلت مداعبا :
– الشمس لا نشعر بقيمتها إلا بعدما تغرب وتغيب ،مضت فترة ونحن بلا دفء ولا ضوء ! ! أين أنت يا أم وليد ؟
ابتسمت كعادتها…وأكملت قائلا:
بالله عليك قولي لي :
ما الذي تأكلينه يا سيدتي لتصبحي جميلة إلى هذه الدرجة ؟ …
ابتسمت …وأطرقت بحزن قرية اغتصبها الطغاة…وعبروا…
ادركت أنني احاول تطبيب جراحها التي فتقتها أعاصير هذا الزمن الظالم.
– قالت : ساخر ، شقي ، لئيم هذا القدر ، لم يبق بي موطئ للخسارة يا استاذ …حسبنا الله ونعم الوكيل .لا اعتراض على إرادة الله…
أم وليد ، امراة صيدلانية جاوز عمرها السبعين عاما، فلسطينية ذات أصول مغربية، مهجرة من اليرموك، هادئة ، على قدر كبير من الطيبة والثقافة ، لكنها انطوائية على الرغم من تميزها .توفي زوجها قبل كارثة 2011 بعدة سنوات …
في بداية الأزمة خرج ابنها الشاب الجميل المثقف ولم يعد! بحثت عنه في كل مكان قالوا لها:
لقد تجاوز الخطوط الحمراء ويجب أن يعاقب …زوجته انتظرته طويلا، ولما فقدت الأمل، غادرت إلى الأردن حيث يقطن والديها مع طفليها الجميلين، أختها غدرت بها قذيفة ومزقتها، وهي نائمة في فراشها، في حي التجارة الدمشقي …أصبحت ام وليد وحيدة، وحيدة كدمعة…
في ركن ضيق داخل صيدليتها ، يطل على بابها ، ترصد دخول الزبائن ..قلت لها :
عليك أن تغيري مكان جلوسك ، وتجلسين هنا ، هنا خلف حاجز بيع الدواء ، واستقبال الزبائن في الوسط ليراك بوضوح كل من يدخل الى الصيدلية ..قالت (وقد علت وجهها ابتسامة حزينة ومتعبة ) :
أحب الأماكن الضيفة …
رددت مستغربا ..لماذا ؟
أجابت : الأماكن الضيقة تحتوي أوجاعنا ، وتلملمها بإطار ضيق ، ومساحة صغيرة لتجعلها أخف صخبا وأقل حدة ! !
يا إلهي المتربع على عرش السماوات والأرض احفظ هذه المرأة المكلومة ..الحزن سيقتلها …وأعطني القدرة على الصبر والصمود ، لم يعد قلبي العليل يحتمل …
في ذلك المساء رأيت دموع أم وليد …
لا شيء يؤلم كدموع القهر إنها جروح لا تندمل …الحياة ظالمة ومظلمة …
دعتني أم وليد للدخول (من مكان وقوف الزبائن الى الداخل) همت بعيني داخل الصيدلية حيث تضع حاجياتها …شبشب له طرة حمراء مركون في الزاوية له شكل غريب (محاولة مني لاستبدال حالة الحزن بحال افضل )قلت لها:
إن فردة الشبشب يا سيدتي تشبه طائر استوائي تقول أسطورة :
إن قبيلة الأنكا كانت تسمع الطائر ليلا يقول:
احذروا الإسبان ، الإسبان قادمون..
نظرت إلي نظرة مليئة بالشك ومثقلة بالتأنيب ، وحكت راسها ..وقالت :
أنت صاحب خيال واسع ..وضحكت من حماقتي …
بعد زيارتي الأخيرة لأم وليد سقطت في الواقع الروتيني وانشغلت عن زيارتها بسبب ضغط العمل …
في ذلك المساء الحزين الحزين ، انتابني قلق مفاجىء ، وغاص في صدري توجس ، ودب في أعماق كياني يقين بدائي ،أعمق من العقل …أن أم وليد في خطر … لقد كنت واثقا..
ها أنا أقف أمام الصيدلية …إنها مغلقة لليوم الثالث على التوالي. من أسال عنها ؟ كيف نسيت أن أطلب منها رقم هاتفها ؟
يا إلهي ما أشد غبائي وحماقتي ! توجهت الى المكتبة المقابلة لصيدليتها …كل ما قاله الفتى أن الصيدلية مغلقة منذ عدة ايام ، ولا يعرف لماذا ..
بعد اسبوع كانت ورقة نعوة أم وليد على باب الصيدلية …
مر شهر وأنا محزون وقلبي مقبوض ..أصوات القذائف والرصاص تملأ المكان . أحداث رهيبة تحدث ، أوضاعنا تترنح كجريح ، كرجل سكران …
الحقيقة أن البشر يتلاقون ويفترقون كأوراق الشجر التي تطردها الريح …
في الصباح توجهت إلى فرن الشوام ،انتظرت في الدور الطويل الطويل …حانت الإلتفاتة مني إلى ركن مهمل تتجمع فيه أكياس الطريق وأوراقه …كانت فردة شبشب أم وليد في وسطها ، أثار في قلبي كوامن العواصف ، ومكامن الذكريات …كان وجه ام وليد يبتسم لي ، وأنا أمسح دموعي الغزيرة بباطن كف يدي …وقفت أمام الشبشب ذو الطرة الحمراء الذي يشبه طائر إستوائي مشدوها حزينا ..وضعته في الكيس المخصص لخبز أولادي وعدت إلى البيت …ونمت كغريق …. …
محبتي (القدس الموحدة عاصمة فلسطين الأبدية)