ميلاد أمة.. الأول من فبرايرسنة 1909 ذكرى محمود محمد شاكر

رضا راشد | باحث في اللغة والأدب – الأزهر الشريف

 

إن من اﻷيام أياما تتيه على سائر اﻷيام بمن ولد فيها ممن كانوا سحبا هطلت على البشرية بغيوث نفعها وآثار عقولها ،فكانت  البشرية – ولا زالت – من تلك الغيوث وهذه اﻵثار في رياض غناء وجنات فيحاء .=وإن من اﻷيام أياما تسير بين إخوتها من اﻷيام كاسفة البال، مستترة الوجه خجلا وحياء من أن ولد من رحمها من نكبت بهم البشرية طويلا وعانت من شرورهم كثيرا.

وإن يوما جاد على اﻷمة بعقاب العربية واﻹسلام ، اﻷديب اﻷلمعى أبي فهر محمود محمد شاكر، لجدير بأن يشمخ بأنفه مختالا أن ولدت فيه هذه اﻷمة ؛ أعنى ذلكم الرجل الذي اجتمعت فيه خصال أمة.

ولكأنى بذلك اليوم (الأول من فبراير سنة 1909م) وقد كان يوما من أيام القرون اﻷولى من أمة اﻹسلام التى نعتت بالخيرية فكانت أرحامها ولادة بالرجال مﻵى بالعظام -تصدقت به تلك القرون على العصور اللاحقة واﻷزمنة المتأخرة لما رأتها مقفرة من الرجال خلوا من العظام -مقتفية في صدقتها هذه هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين قال : “من كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له ومن كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له” ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

ولا أقول ذلك جزافا، بل استدﻻل بديدن أديبنا في حياته، حيث عاش ما عاش راميا ببصره وبصيرته إلى القرون اﻷولى وأصحابها، نازعا إليهم بسهم وافر، ضاربا على نفسه سدود الغربة ،معتزلا بنى قومه من أهله وعشيرته. وكأنه كان يشعر أنه من أهل هذه القرون اﻷولى لا من القرون التى ولد فيها،  فاستوحش ممن كان يعيش بينهم   ،مؤتنسا بخلوته بسلفه الصالح من علماء اﻷمة وعباقرتها على مدى تاريخها في أسفارهم وبين صفحات دواوينهم  . وكأنه لما عجز عن أن يعيش بينهم بجرمه وجسده عاش بينهم بقلبه وعقله ،فكان أنسه بالخلوة إليهم والحديث إليهم ومناجاتهم عوضا له عن كل غنى .فلا غرو أن كانت الكتب (وعاء إرث أبائه)أسعد الناس به ؛ إذ وصلها وقد قطعها الناس؛ وبرها حين عقها الناس ، وصادقها حين خاصمها الناس، وأكرمها ببذل الغالى والنفيس -مالا ووقتا -حين أهملها الناس ، وآنسها وائتنس بها وقد أوحشتها غربة سجنها بين رفوف المكتبات دهرا دهيرا وأمدا طويلا يكسو وجهها غبار أﻹهمال وتراب النسيان=فكان أن بادلته الكتب حبا بحب ،وعطاء ببذل ، وكرما بسخاء.

أكرمها فأكرمته ،وسألها فأجابته، واستنبأها ففاضت له بنفيس ذخرها، وخادنها فباحت له بأغمض أسرارها ،وفضت له مغاليق كنوزها مما ضنت به على سلفه؛ فعلم منها مالم يعلمه من قبله، واطلع من مكنونها على ما لم يطلع عليه سواه؛ فلا عجب أن كان خلفا ينافس السلف، ومتأخرا يناطح المتقدم .لهذا لم يكن عجيبا أن يقول فيه مالك بن نبي رحمه الله تعالى :

“لو كان الجاحظ حيا ما وسعه إلا أن يترك مكانه راضيا لمحمود شاكر ” !!

وتالله ما أجلها من كلمة رحم الله قائلها ورضي عمن قيلت فيه .لذاك فكثيرا ما أسائل نفسي متحيرا:

 ماذا كان يكون حالنا لو منحت عصورنا برجال كمحمود شاكر؟؟؟؟؟؟ فأبوء بالهم واليأس الذي لا يقطعه إلا اﻷمل في الله عز وجل واليقين بأن أرحام اﻷمة لن تعقم من ولادة العظام وإن صاروا قلة.

رحمك الله أبا فهر  :

فأي هدي طمس عنا بفقدك!

وأي دليل نأى عنا برحيلك!

وأي نور غاب عنا بغيابك !

وأي حزن بقي لنا بفنائك!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى