سحرية الرواية والقصة والقصيدة الرقية بين الوراثتين الجينية والبيئية
أحمد خميس | أديب وروائي سوري – اليونان – أثينا
يعلم الجميع أن المجتمعات في حالة صيرورة مستمرة بفعل الديناميكية التاريخية، فمن المشاعية إلى الرق فالاقطاع والبرجواز إلى الشكل الحالي الذي نعيشه والمتخبّط بين الفردية المطلقة ” Individual”
إلى القبائل الرقمية التي تتجلى بمجموعات” فيسبوك” و”واتس آب” … الخ.
المجتمع السوري هو مجتمع قبلي انتقل من قبليته إلى مدنيته بحكم ما ذكرناه سابقًا، لكن ثمة نقطة جوهرية لم يسبق وأن تطرق لها أحد، وأنا لست بصدد الحديث عنها مطولاً لكن بإيجاز سنقول فيها :
الأسر الممتدة والتي تتكون من الأجداد، والأعمام، و الأحفاد، والأسباط الذين يجمعهم بيت واحد، وعائلة واحدة، ويعودون بقرارهم إلى المرجعية الكبرى في هذا الامتداد الدموي والذي يمثله غالباً كبير العائلة انقرض بالتدريج بحكم تردّي الأحوال الاقتصادية؛ فهؤلاء البشر مجتمعين يحتاجون لأن يأكلوا ويشربوا ويتزوجوا .. وإلى ما هنالك من احتياجات، ومتطلبات لذلك بدأ الشكل البسيط للأسرة بالتماهي بسبب الشرط الاقتصادي أولاً؛ فتحولت الأسرة من شكلها الممتد إلى شكلها المسمى نووياً في علوم الاجتماع فتلاشت الزعامة وأصبح الفرد كياناً مستقلاً بذاته، تمدنت الحواضر إن صح استخدام مفهوم التمدّن لتوصيف حالة كهذه.
وبالعودة إلى العنوان المتعلق بالسحرية في الرواية والقصة والقصيدة الرقية.
في الحقيقة هذا البحث البسيط الذي أجريته على عجالة يدركه تماماً المهتمين بالأدب والرقي على وجه خاص وما أقصده بالسحرية هنا؛ هو تلك العاطفة الدفّاقة التي امتاز بها كتّاب الرقة وشعراؤها عن سواهم، فالمتتبع يستطيع استشعار ذلك بكل سهولة. اللغة العذبة وما تحتويه من صور وبلاغات وتشبيهات نراها فريدة في الأدب الرقي بشكل مبالغ فيه أحياناً.
النفس الطويل والرِّقّة عنوانان رئيسان في المنتج الإبداعيّ الرقي.
في هذا المقال جعلتُ أُشرّح وأقصل مفهوم الأدب ومعنى الحكاية وطرحها بأسلوبِ أناس ما تأثروا كثيرًا بعجلة التاريخ التي كانت تطحن ضرورة معنى البساطة التي تحدثتُ عنها بمقدمتي؛ بحيث حافظ الرّقّيّون على كيان خاص بهم حتى فترة ليست ببعيدة.
” يقول جان جاك روسو ” إن القوانين التي وضعها البشر والتي حالت بينهم وبين الحالة الطبيعية؛ ويقصد بالحالة الطبيعية هي المراحل الأولى من شكل التآلف البشري قبل أن يتحول إلى اجتماع تضبطه ضوابط وتقيده قوانين توزعت بين الحقوق والواجبات يقول بأن هذه القوانين حالت بين الإنسان وبين وازعه إلى الخير”
(بتصرف)
الرواية والقصة ليستا مفهومين غريبين عن أهل الرقة وأعني بذلك بأنهما جزء من بنية النظام والبناء المجتمعي. فالمضافات والأسر الممتدة التي ذكرناها سابقاً كانت أشبه بمعارض للكتب وبمسابقات للشعر تُتدوال فيها الأساطير، ومناقب الأوليين سواء البعيد منهم والطاعن جذره بعيداً في مدى التاريخ، أو القريب إليهم كالأجداد الأقارب. ودائماً ما كانت هذه (الأوضات أو المضافات) كما ذكرنا ملتقىً ثقافيّاً بالمعنى الدقيق؛ تعرض فيه الحكاية وتمارس عليها كل قوانين النقد والسبر والتقصي.
في هذه المنتديات (المضافات)؛ كانت الرواية الشفهية لا تتوقف عند الرواية التاريخية فحسب بل إنّ للعجائبية والأسطورية متسع (حكايات الجن والخرافات و الأساطير) حاضرة بشكل صارخ ومن منا لم يسمع بمجالس الصوفية وذلك الخيال الأخّاذ الذي كان يسلب الناس عقولهم ويجعلهم يسبحون في فلك الأسطورة بمعناها الأصيل فاستلهموا منها الحكمة والسكينة وساهمت بشكل أو بآخر إلى خلق فلسفة جمعية وفردية في آن واحد..
أما فيما يتعلق بالشعر الموزون أو شعر الأغنية؛ فلا أعتقد أن هنالك بقعة على وجه الأرض أمتازت بشعريتها الغزيرة والمتنوعة، والتي جالت وعالجت مواضيع كثيرة على رأسها الوطن والحب والرثاء والمدح والهجاء.
“كل الرقيّات شاعرات” قانون لا يعرفه إلا من كان رقّيّاً.
المرأة الرقية قادرة على نظم الشعر أينما حلّت؛ فتقول الرثاء في زوجها الميت، وفي أختها، وأمها، وابنها وجارها، بل تقوله حتى في كنتها وحماتها وضرتها.
تقول الشعر في حصاد القمح والقطن والشمندر، وفي قطاف الزيتون، ورعي الغنم، وحلب أبقارها في المساء.
في رضاعة ابنها، وأثناء نومه وفي فطامه ومشيه، وقلع أسنانه اللبنية، وفي ذهابه للمدرسة و(خدمة العلم)
وفي زواجه وهكذا حتى وفاته ….
وأما عن النهر (الفرات) فكان الحاضر الشاهد الملهم الدافع في كل ما ذكر..
للفرات قدسية عند أهله وهنا تتجسد الوراثة البيئة التي تمنح المنتج إطاراً مكانياً جليّاً بذاته فريداً عن سواه..
وأمثلة الأدب كثيرة في ذلك، فكما للأدب الروسي من طابع، وللأمريكي و الأسباني والبلغاري والتركي والمصري؛ كان للرقي شكله وطابعه بفراته. وكما أن لماء هذا النهر من عذوبة، ورقة كانت عذوبة الرقيين ورقتهم..
لن أطيل أكثر في هذا المقال .. لأنني سأورد أمثلة على ذلك في مقالي القادم فيه بعض القصص، والروايات الفراتيّة، و الأشعار الرقية ذات المواضيع المتنوعة والمتعددة والتي تدلل على ما سبق.
سحرية الرواية والقصة والقصيدة الرقية بين الوراثتين الجينية والبيئية
يقول الروائي والمفكر السوري معبد الحسون:
إن القصة ابنة القرية، والرواية ابنة المدينة مستشهداً بتشيخوف الذي كتب الأولى، وبديستوفيسكي الذي كتب الثانية، مؤيداً ذلك بالتفاصيل والتعقيدات التي تتخلل المدن، وهي التي تثري خيال الروائيّ الذي يعتمد في بنائه على الجزئيات، والانتقالات الثقيلة بطيئة الخطى.
على عكس القصة التي يُبنى هيكلها صغيراً بهيئته، غنياً بطرحه ومكثّفاً بأفكاره.
(بتصرف)
وعلى الرغم من أهمية هذا القول إلا أنني أتفق ولا أتفق معه بالمطلق، لكن دعونا نعتمده نقطة مرجعية أُولى، وحجراً نبني عليه مقالاتنا.
لا يخفى على الكثير منا أهمية <<الرقة>> كمدينة على القصة كمنتج أدبي وريادتها لهذا المجال ولعقود طويلة؛ حيث تناقل أبناؤها مشعل الحكاية، والنص القصصي من “خليل الحميدي” و”ابراهيم الخليل” و”عبد السلام العجيلي”، إلى “موسى عباس” و”يوسف دعيس”و “محمد الحاج صالح” و “أيمن ناصر”.
بداية ..
فعل الكتابة : هو وجهة نظر ورؤية الكاتب للأشياء، والأحداث، والمواقف من حوله، وانتقالها من الانطباع فالملاحظة فالإحساس، إلى أن تتحول إلى قضية مدوّنة تصوغها مخيلة مرتكزة على جذرها الأول.
هذه الرؤية التي تتشكل بفعل الضمير العام، وتساهم بتشكيله في نفس الوقت حيث تمنحه وتضيف إليه بقدر ما تستمد وتستلهم منه.
القصة الرقية كمفهوم
لم تخضع لفعل الكتابة وأدواتها بالمعنى الدقيق؛ أي عبر مؤسسات نشر وتوزيع، ولا لإعادة تدوير حقيقية حيث تخرجها من الإطار الاجتماعي الضيق إلى الفضاء الأرحب؛ فضاء التعريف وتحديد الهوية العامة لهذه المنطقة الجغرافية الأمر الذي جعل ملامحها ضبابية ولن نقول مشوهة وذلك لأسباب عديدة لسنا بصددها، لكن قد تتقدمها الأسباب السياسية التي كانت تثخن بقبضتها على مكان ما دون سواه، وتكيل بمكيالٍ مثقوب غالباً، أو لأسباب أعمّ وتتحمور حول شعور كتّابها الذين آثروا طرح وتناول القضايا الكبرى التي عاصروها وعانوا منها. وبما أن الأدب هو الإطار الفني للجرح كما يقول “موسى عباس” دأب كتّاب الرقة إلى تأطير جراحهم التي عانوها من النكبة إلى النكسة و(حرب تشرين)، وما رافق ذلك من توترات عاشتها المنطقة العربية وسيطرة الأفكار القومية التي غذتها سياسة الحزب الواحد، وتأثّر كثير منهم كغيرهم على امتداد الجغرافية السورية بهذه الأفكار والرؤى؛ فكانت “الحب والنفس” و “بنادق لواء الجليل” (قصص) للراحل عبد السلام العجيلي إبان النكبة و”قلوب على الأسلاك” (رواية) أيام الوحدة السورية المصرية.
ورغم قلتها إلا أن الميثولوجيا الرقية كانت حاضرة في الأدب حضوراً بهياً فريداً؛ سواء في سرديات” أحمد ظاهر” وأشعاره الشعبية منها والفصيحة، وكذلك في أدبيات” ابراهيم الجرادي” واستخدامه للمفردة التي تلفظ عن نفسها غبار المحكية إلى الفصحى الجلية.
يقول الشاعر والفنان التشكيلي” أحمد ظاهر” في قصيدته “جَمَل غيده” من ديوان غزالة الماء
” أدري يسابقكِ الحنين
إلى الفرات .. لتسكبي .. عطر العذارى
في حقول الماءِ ذياكَ المساءْ..
أدري
بهودجكِ الحزين
يسامرُ الليل المغامر
في إنتظار الفجر .. في وله النساءْ
)غيده) أما آن الأوان
ليفرحَ الجملَ الذي من دون
كل جِمال خلق الله
يرفلُ بالبلاءْ ..
الله كم مكثتْ
دموعكِ عند أبواب الذي باع البلاد بسكرةٍ
ومضى يدندن في انتشاءْ
(غيده)
على درب ِالرجوعِ تسائل الطُرّاق
عن هذا الخواءْ….
(غيده)
جِمال الناسِ حنّتْ
من حنينكِ في البكاء “.
وهنا نلاحظ اتكاء الشاعر على الأسطورة والحكاية، وتطويع الموروث في خدمة النص الحديث، والعودة إلى الصدر الأول والمخيلة الجمعية للبيئة التي انحدر منها في موازنة أدبية خلّابة وانعكاس الماضي في مرآة الجديد ليخلق كياناً شعرياً يطفو على براءة طفل ودهاء شاعر.
كذلك فعل الدكتور” موسى عباس ” في قصة ( الجن لا تسكن مدينتي) من مجموعته القصصية” العبور إلى مدين”
وهنا يعود الكاتب إلى المصب و الذاكرة الأولى التي تبلورت من خلالها رؤيته للجانب الموحش في ذاكرة ذلك الطفل الذي يخشى الخرائب حيث شخصيات كالهرط، والحنفيش والعفاريت والسعالي التي ذخّرت مخزن الخيال لدي الكاتب فعاد إليه حينما قادته قصته وشعريته.
كل الحب