نجم هوى

حسان علي | قاص فلسطيني – سورية 

لم يكن تجاوز الثالثة عشرة من عمره عندما بحثوا عنه ولم يجدوا له أثراً وكان من المفروض أن يعود بعد انتهاء دوامه المدرسي, انتظر الأهل وتريثوا قليلاً, لعلّه ذهب مع أحد رفاقه في الصف,طال انتظارهم فراحوا يسألون عنه دون جدوى ..
أكدّ الجميع أنهم رأوه منصرفاً من المدرسة،سأل أبوه إلى أين ذهب ؟
الأم حزينة وشيئاً فشيئاً ساد الغضب .
كانت الشمس قد وصلت إلى خط الأفق وخيوط أشعتها المتوهجة ترتسم على البلدة توثّب الجميع للبحث عنه , قال أحدهم:
لنسر خببا فربما أدركناه بين الأحراش؟
أوغلوا ،في حين اقتربت أشعة الشمس نحو المغيب، الأم تسير أمامهم وكأنّها تمتطي السحاب , لم تكن حينها تبكي ولكنها شاردة تحدّث نفسها ،في حين الأب لم يكن غاضباً بل كان يفكر أيضاً في لغز المغيب؟!
ليلة بأكملها وأهل الخير يحثّون الخطى بحثاً عنه إلى أن شارفوا الوصول إلى سفح الجبل يتتبعون آثاره التي لا تنتهي, جلسوا يلتقطون أنفاسهم وراحوا يتحدثون عن مصير الصبي انبثق صوت مرتعش من بين الجموع :
ابني كبير، نعم أكبر من عمره ، كنت أعرف أنه سيفعل ذلك ، ولكن ليس قبل أن يصبح شاباً، تداورت الرؤوس فيما ازدادت دهشتهم وكأنّهم أمام لغز محيّر سببه غياب الطفل.
في الأثناء سمعت عند سفح الجبل رشقات رصاص تحذيرية غير أن ذلك لم يمنع الناس من متابعة سيرهم باتجاهه، رغم وعورة الدروب وصعوبتها, طال بحثهم ولا أمل في إيجاده, وقف البعض مستسلماً إلاّ الأم فقد كانت تهمس بكلمات مغلّفة بالفرح والحزن، والغضب حيناً ، سائرة دون وعي رغم تردد أصوات وأصداء العيارات النارية، ابتعدت الأم في سيرها بعيداً والناس جاثمون في حين لحق بها بعضهم رغم مكابدتهم ومعاناتهم في تسلّق الصخور، وأخيراً شقّت الأم صمت المكان قائلة:
لابدّ أنه وصل, انّه يستطيع أن يفعلها, ابني وأنا أعرفه، كثيراً ما حدّثني عن رغبته بالذهاب إلى الجانب الآخر من الجبل،حينها أخبرته بأنّ الأمر مستحيلاً وفيه خطورة ومجازفة بسبب وجود الذئاب والوحوش الضارية, قال يومها:
أنه لا يخشى شيئاَ، وأنّه يوماً ما سيذهب إلى هناك, رحت أخبره بالكفّ عن التفكير بالأمر كي أردعه وأمنعه, أخفيت عنه الحقيقة وتذرّعت له بالذئاب .
هذه الكلمات راحت ترويها الأم في أثناء رحلة بحثّها, إحدى الصبايا قالت:
لماذا صبي بمثل عمره؟! ألم يكن جديراً بكم أيها الكبار أن تقوموا بذلك؟
لم ينبس أحد منهم ببنت شفة بل طأطأوا رؤوسهم يرسمون خطوطاَ متعرّجة على التراب وراحوا يغوصون في وهم السراب .
فجأة صاحت الأم : انظروا؟!
كانت قد وصلت إلى قمة الجبل تنظر إلى السهل الأخضر الشادي السابح في النور والدفء كقطعة من الحلم ووهج الشمس يلمع أمامها كالذّهب, التفتوا إلى الوراء, كان الظلام يلفّ البلدة البعيدة و عواء الذئاب يتردد صداها باعثاً الخوف والهلع في النفوس.
تبادل الجميع النظرات وتداورت الوجوه الموسومة بالخوف والصمت وعادوا منحدرين إلى البلدة النائمة في الظلام يرثون لحال الأم المكلومة على فراق ابنها.
ظلّت الأم وحدها واقفة تنظر إلى الشمس الساطعة فيما لاح ظلّ الصبي منحدراً على السهل المشرف على القرى والبلدات وقد تدثر برداء النور وكانت هي تفتح ذراعيها وتبتسم .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى