رسالةُ مُحَمَّد الطّاهِر ابْن عاشُورٍ بعد انتهائه من كتابة تفسيره ’’ التحرير و التنوير ’’
يَقُولُ مُحَمَّدٌ الطّاهِرُ ابْنُ عاشُورٍ بعد انتهائه من كتابة تفسيره “التحرير والتنوير” والذي كتبه في أكثر من تسعٍ وثلاثين سنة:
قَدْ وفَيْتُ بِما نَوَيْتُ، وحَقَّقَ اللَّهُ ما ارْتَجَيْتُ فَجِئْتُ بِما سَمَحَ بِهِ الجُهْدُ مِن بَيانِ مَعانِي القُرْآنِ ودَقائِقِ نِظامِهِ وخَصائِصِ بَلاغَتِهِ، مِمّا اقْتَبَسَ الذِّهْنُ مِن أقْوالِ الأئِمَّةِ، واقْتَدَحَ مِن زَنْدٍ لِإنارَةِ الفِكْرِ وإلْهابِ الهِمَّةِ، وقَدْ جِئْتُ بِما أرْجُو أنْ أكُونَ وُفِّقْتُ فِيهِ لِلْإبانَةِ عَنْ حَقائِقَ مَغْفُولٍ عَنْها، ودَقائِقَ رُبَّما جَلَتْ وُجُوهًا ولَمْ تَجْلُ كُنْهًا، فَإنَّ هَذا مَنالٌ لا يَبْلُغُ العَقْلُ البَشَرِيُّ إلى تَمامِهِ، ومَن رامَ ذَلِكَ فَقَدْ رامَ والجَوْزاءُ دُونَ مَرامِهِ.
وإنَّ كَلامَ رَبِّ النّاسِ حَقِيقٌ بِأنْ يُخْدَمَ سَعْيًا عَلى الرَّأْسِ، وما أدّى هَذا الحَقَّ إلّا قَلَمُ المُفَسِّرِ يَسْعى عَلى القِرْطاسِ، وإنَّ قَلَمِي طالَما اسْتَنَّ بِشَوْطٍ فَسِيحٍ، وكَمْ زُجِرَ عِنْدَ الكَلالِ والإعْياءِ زَجْرَ المَنِيحِ، وإذْ قَدْ أتى عَلى التَّمامِ فَقَدْ حَقَّ لَهُ أنْ يَسْتَرِيحَ.
وكانَ تَمامُ هَذا التَّفْسِيرِ عَصْرَ يَوْمِ الجُمُعَةِ الثّانِي عَشَرَ مِن شَهْرِ رَجَبٍ عامَ ثَمانِينَ وثَلاثِمائَةٍ وألْفٍ، فَكانَتْ مُدَّةُ تَأْلِيفِهِ تِسْعًا وثَلاثِينَ سَنَةً وسِتَّةَ أشْهُرٍ. وهي حِقْبَةٌ لَمْ تَخْلُ مِن أشْغالٍ صارِفَةٍ، ومُؤَلَّفاتٍ أُخْرى أفْنانُها وارِفَةٌ، ومُنازِعَ، بِقَرِيحَةٍ شارِبَةٍ طَوْرًا (p-٦٣٧) وطَوْرًا غارِفَةٍ، وما خَلا ذَلِكَ مِن تَشَتُّتِ بالٍ، وتَطَوُّرِ أحْوالٍ، مِمّا لَمْ تَخْلُ عَنِ الشِّكايَةِ مِنهُ الأجْيالُ، ولا كُفْرانَ لِلَّهِ، فَإنَّ نِعَمَهُ أوْفى، ومَكايِيلَ فَضْلِهِ عَلَيَّ لا تُطَفَّفُ ولا تُكْفا.
وأرْجُو مِنهُ تَعالى لِهَذا التَّفْسِيرِ أنْ يُنْجِدَ ويَغُورَ، وأنْ يَنْفَعَ بِهِ الخاصَّةَ والجُمْهُورَ، ويَجْعَلَنِي بِهِ مِنَ الَّذِينَ يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ.
وكانَ تَمامُهُ بِمَنزِلِي بِبَلَدِ المَرْسى شَرْقِيَّ مَدِينَةِ تُونُسَ، وكَتَبَ مُحَمَّدٌ الطّاهِرُ ابْنُ عاشُورٍ.