الأشهر الحرم.. نموذج لإعادة الثقافة الدينية ودورها الاجتماعي
د. أحمد حسين عثمان – دكتوراه في المقارنات التشريعية – مصر
كانت المفاجأة مقلقة حين سألت بعض الشباب ذات مرة عن الأشهر الحرم؛ فترامت نظراتهم إليَّ متعحبين! حيث نظر لي أحدهم باستغراب والآخر باهتمام، والثالث قطع حالة الصمت التي استمرت للحظات معلنا عدم معرفته بالمصطلح وأبدى رغبة عارمة لمعرفة المقصود بها.
إن ما أسوقه الآن هو نقطة من نقاط كثيرة يجهلها هذا الجيل عن الأحكام الدينية لدرجة كادت أن تصل إلى منطقة المعلوم بالدين بالضرورة، وفي هذا من العواقب الوخيمة ما لا يمكن أن نطيقه، وأظن أننا تلمسنا أثر ذلك في واقعنا المعايش، فمعلوم لدى علماء الاجتماع أن العلاقة طردية بين معدل الجريمة والأخلاق، وللأسف ما زال المصلحون يبحثون عن العلاج في الصيدلية الغربية دون أدنى انتباه بجوانب إصلاح النفس في تلك الشريعة وتراثها المجيد.
وييدو لي أن معرفة أحكام الأشهر الحرم هو النموذج الذي أنطلق منه للتعليق على دوره اجتماعيا .
فالأشهر الحرم هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، كما في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: “إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب، شهر مُضر، الذي بين جمادى وشعبان” .
وقوله: ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان، لأن ربيعة كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً، وكانت مضر تحرم رجباً نفسه، ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وسلم): “الذي بين جمادى وشعبان” تأكيداً وبياناً لصحة ما سارت عليه مُضر.
أحكام الأشهر الحرم
أولا – مضاعفة العقاب على الذنوب
لقد بين أهل العلم أن العقاب على الذنوب يضاعف في هذه الأوقات استناداً لقوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) )التوبة:36( وذكر (ابن كثير) -رحمه الله – في تفسيره: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) أي في هذه الأشهر المحرمة؛لأنها آكد، وأبلغ في الإثم من غيرها. وقال (قتادة)” إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم في سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم في أمره ما يشاء”.
وقال (القرطبي) -رحمه الله-” لا تظلموا فيهن أنفسكم بارتكاب الذنوب، لأن الله –سبحانه- إذا عظم شيئاً من جهة واحدة صارت له حرمة واحدة، وإذا عظمه من جهتين أو جهات صارت حرمته متعددة فيضاعف فيه العقاب بالعمل السيء، كما يضاعف الثواب بالعمل الصالح، فإن من أطاع الله في الشهر الحرام في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام، ومن أطاعه في الشهر الحلال في البلد الحرام ليس ثوابه ثواب من أطاعه في شهر حلال في بلد حلال، وقد أشار الله إلى هذا بقوله: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً) [الأحزاب:30]
ثانيا : تحريم القتل والاعتداء فيها والظلم
يحرم في هذه الأوقات القتال إلا إذا كان ردا على الاعتداء، ومن مظاهر الاعتداء التشاجر العائلي والمكائد والقذف والخوض في حياة وأعراض الآخرين وأكل المواريث .
ثالثا: مضاعفة الثواب
إن الله يضاعف الثواب في هذه الأشهر: ففي هذه الأشهر تتعاظم الحسنات والعاقل من اغتنم أوقات البركة لإصلاح النفس والذات .
مقاصد أحكام هذه الأشهر على النفس والمجتمع
(ورقة إصلاحية)
تلك هي الأحكام المبسطة عن تلك الأشهر التي تمر كل عام دون أن نرى أثرها على ذاتنا وأنفسنا، إننا لو دققنا النظر إلى مقاصد هذه الأشهر سنجدها سفينة نجاة لتغيير النفس وإصلاحها فإنه سبحانه لا يغيير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وهذه سنة كونية لابد من وضعها في الحسبان حين تناول الإصلاح، ومن هذه المقاصد التي نراها في تخصيص الشرع لهذه الأشهر بمزيد اهتمام ما يلي:
إصلاح النفس من خلال التدرج
فإذا جعل العبد مقام المراقبة لله سبيلا، وأقام نفسه مقام الإحسان فعبد الله كأنه يراه واتقى مولاه -تعالى – وجاهد نفسه- لربما وَجَد نفسه في سائر الشهور متقيًا محترسا متيقظًا، وقد صار له ذلك عادة وسجيَّة. قال (الماوردي): ليكون كفهم فيها عن المعاصي ذريعة إلى استدامة الكف في غيرها؛ توطئة للنفس على فراقها مصلحة منه في عباده ولطفاً بهم”. وإن شبابنا لاشك اليوم- في أمس الحاجة إلى مثل هذا العلاج الذي يوقف بشدة حالة الفوضى الأخلاقية التي نعيشها .
إصلاح النزاعات العائلية
إننا نرى المجتمع العربي عامة والمجتمع المصري خاصة مليئا بصراعات اجتماعية هابطة يحدثها حفنة من مرضى النفس والهوى في كل أسرة، فأقل ما تجده أكل لحم أخيه ميتا، كما شبه القرآن المغتاب بل تتصاعد الأمور إلى القذف في العِرض و.. ، وربما باليد بل يصل بأحدهم إلى السحر والشعوذة والعياذ بالله، ومن أكل التراث في قرى مصر ، فتفشي ثقافة الأشهر الحرم في المجتمع قد يجعل هؤلاء يكفون عن هذه الاعتداءات فيجنون من ثمراتها مع يجعلهم يراجعون أنفسهم فتعود الأُلفة ويعود الوئام من جديد بل وربما ذكرت الزوجة الصالحة زوجها المتطاول على أسرته ضربا وسبا بهذه الأيام فيراجع نفسه .
ومن عجيب ما قرأت أنه قد توارث عن عرب الجاهلية الأولى، أن الرجل يمر على قاتل أبيه فلا يَهِجْهُ، ولا يقربه بسوء، التزامًا بحرمة الأشهر وتعظيمًا لهنّ؟!، وأظننا أولى بذلك .
العمل على إنهاء الحروب الداخلية ولو بصورة مؤقتة
إنني أتعجب بشدة حين يلتقي المسلمان بسيفيهما فتدخل دولة أجنبية خبيثة لوضع هدنة مؤقتة ، فيلتزم بها الطرفان قهرا وذلا ، ولا نجد مثل هذا الخضوع وتلك الاستكانة للنداء الإلهي الذي يحرم القتل في هذه الأيام . وقيل: لقد كانت العربُ تعيش على الحروب والإغارات والنهب والسلب، وكانت تنهكها الحرب، وربما ضاق عليها الأمر بسببها، أو احتاجت فترات استراحة، لتعود بعدها من جديد، فكان ربما صادف تلك الرغبة زمان الأشهر الحرم، فأوقفوا الحرب إلى أن تفوت.
ومن حِكمها أيضًا أن أحد الفريقين بعد طول المعركة وحدتها قد يُقدِّر أن ترك الحرب خير له من الاستمرار فيها، لكن تأخذ العزة، أو يخشى تعيير الناس فيًرمى بالجبن والخوف، فيبحث حوله عن أقرب نقطة زمان أو مكان ليختبئ وراءها، فجعل الله –تعالى – هذه الشهر الحرم مختبأً لهذه العزة النفسية، ثم قد يجعل الله بعدها من الخير للفريقين ما هو خير لهما من استمرار الحرب، خاصة لمن هم تحت القصف من غير المقاتلين أو الضعفة، أو ممن لا دخل لهم فيها.
الاستعداد للعبادات العظمي
– تقام عبادتان عظيمتنا شاقَّتان مع هذه الأشهر، بل ركنان من أركان الإسلام، صوم رمضان، فكانت حرمة رجب قبله تمهيدًا له، وحج بيت الله الحرام، وكأن الشارع يمهد للنفس صلاحها؛ كي تستقبل رمضان وهي في غاية الصلاح ، وتأتي بيت الرحمن وهي طاهرة نقية .
من المسئول عن نشر ثقافة الأشهر الحرم؟ ورقة إصلاح
لاشك في أن المجتمع كله تقع علية تلك المسؤلية ولا أكون مبالغا إذا قلت: إن تعمد إخفاء مثل هذه الثقافة والتعتيم عليها بحرية الفكر والثقافة ومحاربة التطرف -عملية ممنهجة لكننا لن نيأس من تقديم النصح للطبقة المثقفة والحاكمة؛ حفاظا على ركب سفينة المجتمع ؛ لأن انهيار المجتمع لا ينجو منه أحد حتى الفاعل .
أما عن ورقة الإصلاح فتكون كالتالي:
أولا بصورة عامة
العمل على نشر تلك الثقافة في كل مدخل ثقافي: بصورة عامة يقول المنفلوطي” والدين خلق شأنه كبقية الأخلاق لايرسخ في النفوس إلا بتكرر الصور الدينية وتداولها عليه ، فإن بعد عهدها به أغفلتْه النفس وأنكرتْه ” ولم أكن في الحقيقة أعرف تلك السطور حق المعرفة حتى شرحها لي الواقع وفسرتها التجربة ووضحها الاختلاط بعظم المجتمع ولحمه.
فإذا أردت أن تنشر أمر ما فحاصر المجتمع به فيراه في المدرسة والبيت والإعلام، ولذا قل الوازع الديني في النفوس ؛ لأن المادة المعروضة تكاد تكون عنه منعدمة ، وهذا ما يجعلك تفسرلماذا تبني كثير الناس سلوكيات الغرب فكرا ومظهرا ؛ لأنها مسلطة على جدران الحياة فتشرّبها مجتمعنا على أنها الحياة التي يجب أن يحياها .
ثانيا- بصورة خاصة
الإعلان الرسمي في وسائل الإعلان عن دخول الأشهر الحرم كما نعلن عن وقت الحظر الأمنى ووقت المبارايات ووقت هطول الأمطار ، وإذا كان الغرض من هذه الاشياء هو أخذ الحذر أو الانتباه لها ، فمن باب الاولى تنبيه المجتمع إلى ما يصلحه ويقومه .
تغليظ العقوبة على ارتكاب الموبقات في هذه الأوقات؛ فتشدد عقوبة السرقة وشرب الخمر والقتل وكل ما هو مخالف للآداب في هذه الأوقات ، ولعل مثل هذا يكون كما قلت تحفيزا لهؤلاء عن الامتناع عن الخمور والمخدرات المنتشرة بصورة مؤبدة.
توحيد الخطاب الديني في المنابر عن هذا الأمر، واستخدام خطاب الترغيب ، كي يكثر الناس من الخيرات ويتربى في دواخلهم الضمير، وفي ذلك بلا شك تقليل لمعدل الجريمة ومساعدة لجهاز الدولة على ضبط أمن المجتمع .
تغيير منهج رب الأسرة في هذه الأوقات؛ فلو استطاعت كل أسرة أن تضع منهجا للخيرات في هذه الأشهر بل وتشدد هي أيضا من العقوباته على أبنائه حين يرتكبون خطأ في مثل هذه الأوقات أظن أن ثقافة انتشار المصطلح ستزداد .
و ختاما
أرجو من الله أن أكون وفقت في تقديم ورقة إصلاحية في هذا الجانب ، وإنني مؤمن إيمانا لا يتزعزع بأن ما تقوم به الدولة أو ما تريد أن تقوم به الدولة من إصلاح لن يكون ذا بال إذا لم تضع نصب أعينها الاعتناء بالثقافة الدينية ، فلا تقام أسرى سوية دون بر ، ولا تقام دولة قوية بلا أخلاق ، والإسلام هو المنبع الأسمى لكل مظاهر السمو دون أدنى تعصب وإن حُق لي ذلك.