مصر ولبنان: رحلة التاريخ والزمان
توفيق شومان | مفكر لبناني
قد لا يفي الرجوع إلى التاريخ المكتوب ، بعيده أو قريبه، بحقيقة العلاقات اللبنانية ـ المصرية، فحين تكون الأبجدية الفينيقية التي غدت أما لأبجديات العالم المعروف كما يقول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، نتاجا او تطويرا للغة المصرية القديمة، فللمخيلة ان تذهب إلى ما هو أبعد وأعمق من التاريخ .
مع ذلك، تسجل النصوص التاريخية مفاصل في غاية الأهمية، وقلما توقف عندها المؤرخون والباحثون، من مثل موقع مدينة جبيل اللبنانية في الميثولوجيا المصرية ـ الفينيقية ، وكونها مدينة عبادة تمازجت فيها ديانات الفينقيين والمصرييين القدماء في مراحل مديدة للسلالات والأسر الفرعونية ، وأما بعد الميلاد ، فإن انتقال الفلسفة من مدينة أثينا إلى مدينة الإسكندرية، وبروز الفيلسوف المصري الإشراقي أفلوطين ( 202 ـ 2027 م ) كأحد أهم رموز هذه المدرسة، فإن تلميذه الفيلسوف فورفوريوس إبن مدينة صور الفينيقية اللبنانية، كان له الدور شبه الوحيد والفريد في إشاعة فلسفة أفلوطين الذي كان ينأى عن الكتابة، فعمل فورفوريوس على ترجمة حياة أستاذه وتسجيل أفكاره وفلسفته في كتاب ضخم معروف بـ “تاسوعات أفلوطين” ، والذي سيشكل في وقت لاحق ، أساسا وأصلا لكل الفلاسفة المسيحيين والمسلمين، أو ما هو متعارف عليه بالفلسفة المسيحية أو الفلسفة الاسلامية.
هذا السياق غير المتقطع وغير المنقطع في مسار العلاقات المصرية ـ اللبنانية، وفي حال تم تجاوز العديد من مفاصله، فإن حملة إبراهيم باشا على البلاد الشامية في عام 1831، أو ” الحملة المصرية ” كما يسميها كثيرون، فقد أسست لمشترك لبناني ـ مصري غير مسبوق بين الأقطار العربية، وربما بما هو أوسع من الفضاء العربي، ففي ظل هذا المشترك تأسست أصول وقواعد النهضة العربية الشاملة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين .
وفي تفاصيل هذا المشترك الذي غابت معه الخصوصيات القطرية والمحلية، تتقدم إلى واجهة الوقائع ، حقيقة مفادها، أن أول مستشفى للحجر الصحي من الأوبئة والجائحات ، والمعروفة حتى اليوم في بيروت بإسم “الكرنتنيا” ، قد تم بناؤها خلال حملة ابراهيم باشا على لبنان وسوريا ، والمصريون مذذاك ، فتحوا أمام اللبنانيين مدرسة ” القصر العيني ” الطبية ” ، حيث تخرج العشرات من الأطباء اللبنانيين ، بعضهم بقي في مصر ، وآخرون عادوا إلى لبنان، وفي المرحلة نفسها، وفي مراحل أعقبتها في آواخرالقرن التاسع عشر، استقبلت مصر ألوف اللبنانيين ، وأتاحت لهم حرية الإقامة والعمل في مختلف الأجناس والأصناف، من التجارة إلى الصناعة، ومن الإعلام والسياسة إلى الطب، ومن النشر والكتابة إلى الفن وعوالم الفكر والثقافة ، وإلى حدود ذهب فيها كثير من اللبنانيين إلى الإندماج و” التمصر” مزاجا ولهجة وهوية انتماء.
من علامات التمازج والمشتركات النهضوية المصرية ـ اللبنانية ، تقف صحيفة ” الأهرام ” على رأس الصدارة ، وقد أطلقها اللبنانيان سليم وبشارة تقلا ، و ” الهلال ” التي أصدرها جرجي زيدان ، و” المقتطف ” ليعقوب صروف وفارس نمر، و” روز اليوسف ” و “صباح الخير” لفاطمة اليوسف والدة الأديب الكبير إحسان عبد القدوس ، وفي القائمة أيضا : مجلات : ” المصور” و” كل شيء ” والدنيا ” و”الإثنين ” و ” الكواكب ” و” حواء ” لإميل وشكري زيدان ، وأما يوسف الخازن ، فأصدر مع داوود بركات صحيفة ” الأخبار” عام 1892، ليبعها بعد عشر سنوات ، ولتنتقل هذه الصحيفة بعد ذلك للشقيقين مصطفى وعلي أمين اللذين أصدرا إلى جانبها ” أخبار اليوم “، فيما دار ” المعارف ” التي شكلت مدرسة التثقيف والتعليم الأولى في العالم العربي ، فقد أسسها اللبناني نجيب متري.
في المجال الفني ، وبعيد تبلوره في مصر الحديثة في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين ، وبعدما تحول الفن المصري إلى رمز تعبيري عن الفنون العربية العامة إنما بخاصية وذاتية مصريتين ، فقد كان للبنانيين دور مشهود به ، فرائد المسرح هو جورج أبيض ، ومعه جورج نقاش ونجيب الريحاني وبشارة واكيم وعلوية جميل ، وفي الإنتاج والإخراج والتمثيل السينمائي تتقدم بديعة مصابني وآسيا داغر وماري كويني وهنري بركات ويوسف شاهين ومحمد سلمان، ومن الممثلين عبد السلام النابلسي وعمر الشريف ، وأما شركة ” بيضا فون ” التي أطلقها الشقيقان جبران وفرج الله بيضا في عام 1914، فتعود إليها ريادة تسجيل وحفظ أغاني سيد درويش ومنيرة المهدية .
وفي الإطار الفني أيضا ، إنما في جانب آخر منه ، فإن المطربتين اللبنانيتين المعروفتين صباح ونجاح سلام ، كان لمصر الدور الأساسي في انطلاقتهما، وإذ غنت الإثنتان مئات الأغاني العاطفية والسياسية باللهجة المصرية ، فإن الملاحظ في هذا الجانب الفني، أن المطربة فيروز غنت ل ” شط اسكندرية ” وألحانا لسيد درويش ، وغنى محمد رشدي ” البيروتية ” ، في حين أن أغنية ” طاير على جناح الحمام ” كانت تضامنا من عبد الحليم حافظ مع جنوبي لبنان .
من بداهات القول إن مصر كانت أول دولة عربية تعترف بإستقلال لبنان عام 1943، فذاك الإعتراف ، توجته العلاقة الوثيقة بين رئيس الوزراء المصري أنذاك مصطفى النحاس وأول رئيس وزراء لبناني بعد الإستقلال رياض الصلح ، وبدعم مطلق من مصر ، انعقد ” المؤتمر الثقافي العربي الأول ” في لبنان عام 1947 ، ووصلت العلاقات اللبنانية ـ المصرية إلى أوجها في عهدي الرئيسين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب ، إذ يُسجل للرئيس عبد الناصر احترامه الفائق للخصوصية اللبنانية عام 1958، وتمثل ذلك في الإجتماع الشهير بين الرئيسين على الحدود اللبنانية ـ السورية ، ذاك الإجتماع الذي أفضى إلى إنتاج تفاهم يقوم على إلتزام لبنان بالسياسات العربية على المستوى الخارجي ، مقابل عدم التدخل في الشؤون اللبنانية على المستوى الداخلي ، وعمليا ، أسهم هذا التفاهم إلى إيصال لبنان إلى ذروة ازدهاره ونهضته حتى لحظة اندلاع الحرب الأهلية عام 1975.
ربما كانت لحظة اشتعال الحرب اللبنانية المذكورة آنفا ، ناقوس خطر لما هو مقبل على العالم العربي بعد عقود ، فتفكك لبنان كان جرس إنذار لم يُسمع طرقه ولا إيقاعه المخيف في الأنحاء العربية ، فجرى ماجرى حتى غرق أغلب العرب في الشر المستطير أو في الشرور المستطيرة.
ماذا عن دور مصر ؟
هنا عودة إلى ما قاله الشاعر المصري أحمد شوقي في مدينة زحله اللبنانية :
لم أدر ما طيب العناق على الهوا
حتى ترفق ساعدي فطواك
///
لا أمس من عمر الزمان ولا غد
جُمع الزمان فكان يوم رضاك .
///
جُمع الزمان بين شوقي وزحله
لو عدنا إلى بداية المقال لرأينا كم جمع الزمان بين مصر ولبنان .