دعوى الحيوان ضد الإنسان عند ملك الجان لـ ’’ هدى الشوا ’’ : دلالات الحكم
تحسين يقين | فلسطين
Ytahseen2001@yahoo.com
تعيدنا الانتخابات ومسألة الحكم إلى الأدب مرة أخرى، وبذلك يكتسب الأدب معنى عميقا وإنسانيا؛ فلم نكن نحن البداية في الحكم والسياسة، كذلك في الأدب.
لذلك عادت الكاتبة لرسالة قديمة لإخوان الصفا، “تعدّ تحفة أدبية فلسفية لتلك الجماعة المستنيرة، نفّرت من استعباد فئة لأخرى، عبر امتلاك اللغة كعامل سيطرة وقوة، باتجاه تأكيد رؤية عربية إسلامية لحقوق الكائنات في العيش الكريم، حيث تبرع الرسالة في دحض مركزية الإنسان في هذا الكون وتدعو، ولو باطنيا، لتعايش الكائنات وحقها في إيجاد مكان لها على هذه الأرض…” كما تقول هدى الشوا، عبر سرديتها العميقة:
يلجأ بشر تحطمت سفينتهم الى جزيرة، مسالمة الحيوانات وجميلة النباتات. يحتل البشر المكان، ويستخدمون الحيوانات بشيء من القهر. تضج الحيوانات من الظلم، فتشكو واقعها لملك الجان. وهنا تبدأ المحاكمة-الجدال الفلسفي.
كل فريق يقدم حجته، وصولا إلى نقد الحيوانات العميق لمسألة الشرعية القادمة من امتلاك العقل والمعرفة، إلى أن تتحول الحيوانات الى موقع المهاجم، اعتمادا على أن البشر أصلا لا يعدلون في عالمهم، فكيف بالأحرى مع الحيوان!
تم السرد تتابعيا، من أول الأحداث: دخول الإنسان للجزيرة، وإحداث تغييرات، ثم الشكوى لملك الجان، فمناظرة بين الطرفين، فاجتماعين لكل طرف على حدة فاستئناف المناظرة، فالحكم. وساهمت بالطبع اللوحات الفنية في أدخال الفتيان في هذا الجو الاسطوري الفانتازي.
في البحر حيث خطر الغرق، ظهرت تنوع البشر في مجتمع السفينة، وكيف بالرغم من ذلك صاروا سواسية في مواجهة الخطر، وكيف في ظل ذلك ظهر الضعف الإنساني، فنشط الدعاء والصلاة.
ومع انتهاء العاصفة، يكتشفون الجزيرة بما فيها، وتبدأ مشاعر التملك تؤثر عليهم. لم تخف الحيوانات في البداية من البشر، لكن بعد تعرفها عليهم، من خلال استغلالهم لها، تغيرت الأمور.
الحصان والبقرة، والجمل والحمار، تحدثوا عما يحدث، باحثين عن مبررات البشر، وصولا الى فكرة التقدم بشكوى لحكيم الجزيرة “بيوراست”، ملك الجان كطرف محايد وعادل، فيسمع ملك الجان “شاه مردان” شكواهم، ويظهر من خلال حواره معهم معاناتهم من البشر، كما يظهر اتجاهه الأخلاقي بعدم قبول الظلم لأحد، ويدعوهم والبشر للمحكمة. في الجلسة المشتركةـ يبرر البشر شرعية الحكم، وصنيعهم بالحيوانات بامتلاكهم العقل، وأن الأفضلية لهم. ترد الحيوانات من خلال زعيمها على ادعاء البشر، اما الحجة الثانية التي أوردها البشر فكانت عن حسن اشكالهم، فترد الحيوانات ان ذلك يعني انتقاص من الخالق. ثم فصلت الحيوانات ردودها حول كيفية خلقها بهذا الشكل: البغل والجمل والفرس والفيل والكبش، شاكين طالبين الرحمة والعدل. ثم يفض الملك الجلسة على أن تستأنف غدا. في هذه الأثناء يشير الوزير عليه باستشارة حكماء الجان وفقهائهم.
وهنا، ننتقل من مجلس المناظرة الى مجلس التشاور، بين ملك الجان وقضاتهم وفقهائهم وأهل الرأي فيهم بناء على نصيحة الوزير، حيث يؤكدون جميعا على صدق دعوى الحيوانات، حتى أن جزءا من الجن قد هربوا منهم. وهنا يتم وضع اقتراحات منها هرب الحيوانات، ويتم بحث الممكن والمنطقي، وصولا لخيار عدم التدخل من قبل الجان، نتيجة تاريخ عدم الثقة بين الجن والإنس، فيرى الملك أنه هناك ضرورة لمناظرة أخرى بين المتخاصمين، “لا بد أن أسمع المزيد من الحجج والبراهين والأدلة قبل إصدار الحكم..”.
ننتقل الى اجتماعيين سريين، للبشر والحيوانات، كل على حدة. في بداية اجتماع البشر، فإنهم يطرحون مسألة رشوة الملك ليميل الى جانبهم، إلا أنهم وهم يتخوفون موضوعية الفيلسوف الجني العجوز، يبدؤون بوضع سيناريوهات الحكم: “إما إطلاقها أو بيعها أو الإحسان لها”. وفي ظل تخوف زيم البشر من فقدان الحكم وتملك الحيوانات لزوم استمرار رفاهيتهم، فإنه يتطرف في الرأي برفض المساومة والمفاوضة، مؤكدا على الحكم بالقوة.
أما الاجتماع السريّ للحيوانات تحضيرا لجلسة المحكمة، فيطرح في بدايته استخدام الشكوى والبكاء والتظلم، للتأثير على قرار ملك الجان، ويتم الانتقال لمبدأ استخدام القوة الجسدية والعقل، ثم بحثوا أسلوب الكلام، وقدرات البشر. تتوحد الآراء على ضرورة الاتحاد، في نزعة تطرف وكره لاستعباد الانسان لهم. يعدّ كل طرف موقفه المتطرف من أجل المحكمة بعد هذا الاجتماعين.
يبدأ ملك الجان بالحديث عن تنوع المخلوقات جميعا من بشر وحيوانات. ثم تستأنف المحكمة سماع الرأي، حيث يؤكد البشر أن شرعية الحكم تعود لتميزهم بالعقل وما نتج عنه من علوم ومعارف. وترد نحلة من عالم الحيوان الحجة البشرية، موردة الصفات القبيحة للبشر، ومؤكدة أن عالم الحيوان له إبداعه الخاص في العيش وبناء البيوت، وله لغاته الخاصة. ثم يتحدث كل من الطرفين عن الطعام، ليدحض كل منهما حجة الآخر. يلجأ البشر الى ميزة الدين، وبعث الرسل، فترد الحيوانات بوجود تكفير لبعضهم بعضا وحروب. وأخيرا يذكر البشر ان مصير البشر هو الجنة، كما هو مكتوب، فتحتار الحيوانات بالرد.
الآن صارت الفرصة مهيأة ليصدر الك حكمه بعد الاستماع لحجج الطرفين بوجود الحكماء، حيث يثني على تكريم الله للبشر، مذكرا بما يقتضي ذلك من مسؤولية للبشر تجاه الحيوانات، وأن الكل له الحق بالحماية والمعاملة الحسنة، لذا فقد وجه البشر لمراعاة حقوق الحيوانات، مختتما بحكمته، بأن الإنسان له حدود، وأن لكل دوره، وكل بما وهب، وأننا نكتمل جميعا بالتجانس.
ويبدو من لوحة الختام، أن الطرفين انسجما، حيث أظهرت عودة الطرفين الى الجزيرة كطرف واحد.
أسلوب: لعل اللغة المستخدمة تعكس اتجاه الكاتبة في المضمون، بحيث ربطت اللغة التراثية بلغة اليوم، بعيدا عن التعقيد، بما يلائم العصر والفئة العمرية والموضوع. لقد استخدمت محسنات لكن بدون تكلف ولا زيادة.
اعتدنا استلهام الكاتبة هدى الشوا من التراث بأسلوب إبداعي، لتعريف الفتيان بهذا التراث الغني، والذي هو أكثر غنى فكريا مما نعيشه اليوم، في هدف نبيل لربط الفتيان بالماضي المتنور، من أجل حاضر وغدا أكثر غنى. “لقد وضعنا هذه المواضيع بلسان الحيوانات لنجعلها أوضح وأكثر إقناعا، وأكثر تأثيرا في التعبير والظرافة والحيوية، وأكثر نفعا للمستمع وإثارة للفكر والمشاعر في أخلاقياتها.”
لقد اختارت الكاتبة بذكاء الحيوانات الني اتى ذكرها في التراث في القرآن الكريم، حيث كانت قد أشارت لذلك في المقدمة.
رسالة إخوان الصفا، وقصة هدى الشوا، تصبان في تقديم المناظرة قديما، والآن، تلك المرتبطة بإيراد كل طرف لحججه؛ فقد كان شيوعها في العهد العباسي مرتبطا بتيارات الفلسفة، وجدليات المتكلمين، بتأثير ترجمات الفلسفة اليونانية. وجميل، استلهام هدى الشوا لهذا التراث العربي والعالمي، وتقديمه للفتيان، لما له من دور في التفكير، من خلال تأمل النفس ونفوس الآخرين، بما نتشابه ونختلف، باتجاهات خلقية وجودية.
هل كان أخوان الصفا سباقين عالميا، للمناداة بحقوق الإنسان؟
لربما، نحت الجماعة، والرسالة رقم 22، التي بعنوان “شكاية الحيوان من جور الإنسان” منحى رمزيا، لم تستطع التعبير الفكري عنه، بسبب نظام الحكم، حيث لا بدأ أن الجماعة، قد شهدت الظلم الاجتماعي، فلجأت الى الرمز، من خلال الرمز بالحيوانات لطبقات مهمشة في المجتمع العباسي.
كان لاختيار الشكل الرمزي، أو الفانتازيا، علاقة بالمضمون، بإثبات أهمية المجموع البشري، بل وحتى الكائنات، من خلال نقد تحكم فئات بفئات أخرى، حيث نحى النص التراثي، كذلك لدى الكاتبة هدى الشوا، باتجاه تصالحي، تعاوني ضد القهر والاستبداد.
ودوما لدى المهمشين والفقراء ما يقولونه، وإن انتفضوا رموا بالكفر والزندقة، فهم عاديون في مسألة الإيمان، لكن استمرار القهر يولد الانفجار والشكوى والنقد العميق للنخبة الحاكمة، وعلاقاتها التي تقوم على القوة. ولعل الفئات المهمشة التي يتم النظر اليها بدونية تمتلك شرعية خلقية أكثر من غيرها.
أما اختيار فن المناظرة الذي عرف قديما عربيا وعالميا، قديما وحديثا، فهو تربية على استخدام الحجة والمعلومة، نبني به لدى الجيل الجديد مهارات ضرورية للحياة، وحل المشكلات بعيدا عن العنف والتعسّف. إنه نص فعلا للفتيان والكبار أيضا، يقوم على فكرة فلسفية نبيلة وعميقة. وهو نص بامتياز في التربية على المساواة.
أما الرسومات المصاحبة، فهي عبارة عن لوحات فنية تشكيلية للفنان د. حسن موسى، أضفت شعورا طقسيا بدءا من لوحة الغلاف، أخذت القارئ الى هذه الأجواء السحرية، التي تخلط الإنس والجن والحيوانات، أكان في أسلوب الرسم، بإضفاء حروف العربية بجمالياتها، أو باختيار الأولوان الحارة، الملائمة لهكذا أجواء، مع مسحة تراثية، ورمزية في آن واحد. 27 لوحة، كان عدد اللوحات بالأبيض والأسود فيها 4 لوحات، اختصت بالبشر. تم رسم السفينة، الحيوانات وشاه مردان، ملك الجان، وتصوير اجتماعات الحيوانات والبشر كل على حدة، وتصويرهم معا، ثم الجميع معا في حضرة ملك الجان، مختتما باللوحة الأخيرة، التي وصفت الصفاء بعد المحكمة، وعودة الجميع بسلام نحو الجزيرة. أما التصميم فهو للفنانة ماريا شعيب.
في جو النص: الإشارة لجماعة أخوان الصفا الفلسفية، واختبار الرسالة رقم 22، التي بعنوان شكاية الحيوان من جور الإنسان”، التي تسرد قصة بشر ناجين من تحطم سفينة لجأوا الى جزيرة، فقاموا باستغلال حيواناتها التي كانت تحيا قبل ذلك بسلام، فذهبت لملك الجان “بيوراست” لعرض شكواها، ليعقد الأخير محكمة ومناظرة، ظهر فيها اهتمام ذلك العصر بقضايا مثل الحرية والعدل وحق الكائنات العيش بكرامة. ولشرعنة ذلك، اقتبست نصا من كتاب “قصص الحيوان في القرآن” للكاتب أحمد بهجت وكتاب “حياة الحيوان الكبرى” لكمال الدين الدميري، بعنوان “الحيوان في التراث العربي”، والذي تركز على صورة الحيوان في القرآن الكريم والأدب القديم.
…..
صدرت عن دار الساقي بالاشتراك مع معهد الدراسات الإسماعيلية، وقعت في 119 صفحة، معتمدة على نص من رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء، “رسالة تداعي الحيوانات على الإنسان”.