ومضات الصاحب الباهرة في حضرة المتميزين والعباهرة.. (26)

محمد زحايكة | فلسطين

د.  مهدي عبد الهادي .. مفكر حر،  و رمز مقدسي شامخ

مع تأسيسه جمعية أو مؤسسة “باسيا ” ذات الطابع الثقافي الفكري أواخر ثمانينات القرن المنصرم.. أخذ الصاحب يتردد على د. مهدي عبد الهادي في مؤسسته اللامعة التي أثبتت جدارة فائقة، إذ كانت الأولى من نوعها من حيث التجديد وطرح الأفكار بحرية مطلقة والتفكير من خارج الصندوق.. هذا الإنسان المثقف والمفكر الجاد الذي نجح في تأسيس مؤسسة فكرية وثقافية جادة ونشطة ومتميزة أسهمت في إثراء الحياة الثقافية والفكرية في القدس العاصمة من خلال الندوات والمؤتمرات المعمقة والدراسات والإصدارات والمنشورات ذات الطابع الفكري والثقافي والمعرفي المستندة على حقائق علمية وإحصائيات دقيقة واقتباسات ومعلومات موثقة، ما ان تصدر حتى تغدو مراجع يعتد بها ويلجأ إليها الباحثون الجادون والمميزون من عرب وعجم.

ومن أبدع الفعاليات الثقافية التي ابتكرها د. عبد الهادي، على صعيد مدينة القدس من حيث الديمومة والشخصيات الفكرية المتنوعة هي الطاولة المستديرة التي كانت تعقد بانتظام على مدار سنوات في قاعة مؤسسة ” باسيا ” وتطرح فيها قضايا شتى للنقاش يكون التركيز في اغلبها على شؤون القدس وهموم سكانها لتشخيص معاناتهم واحتياجاتهم وسبل وضع خطط عملية وآليات منطقية تسهم في تغيير أحوالهم إلى الأفضل في سياق من الوعي والانتماء وتوزيع المسؤوليات على جميع الشرائح والفئات.

وقد حضر الصاحب بعض هذه النقاشات الثرية والغنية والدسمة مستمعا غالبا، ولاحظ كيف يدير د. مهدي عبد الهادي هذه الحوارات والنقاشات بين رموز الفكر والثقافة الفلسطينية بألمعية واقتدار، وكيف استفاد د. عبد الهادي نفسه وطور ادواته الفكرية حتى غدا من أبرز المحللين والمفكرين المحليين كما تشهد بذلك الحوارات والتحليلات المعمقة التي كان يقدمها على شاشات التلفزة في فترة من الفترات. وكان الصاحب يسمع البعض يردد ان د. عبد الهادي على علاقة وثيقة مع الأمير الحسن بن طلال “أبو  راشد ” ومؤسسته الفكرية الرائدة  في عمان .

ولاحقا اكتشف الصاحب سمات اخرى في شخصية د. عبد الهادي في أعقاب رحيل أمير القدس فيصل الحسيني، وكانت هذه السمة تتمثل بكلمة وداعيّة وتأبينية للفيصل لدى ورود النبأ المفجع بوفاته في الكويت، عندما تحلقت جمهرة من المواطنين حوله في ساحة بيت الشرق وهو يتحدث بتأثر وانفعال وحزن عميق، عن الفقيد الكبير الذي بكته القدس وفجع بموته شعب فلسطين كافة.

كانت كلمة د. عبد الهادي هادرة ومرعدة تجسد لحظة قلق لحالة الغياب الفيصلية وكأنها تتنبأ بمصير أكثر قتامة للمدينة بعد ترجَّل فارسها وأميرها المحبوب.  كلمة أثارت عواطفنا وهواجسنا وادركنا على التو فداحة هذه الخسارة التي لا تعوض، لدرجة سرت همهمات بين الحشد، بأن المهدي قد يكون أحد خلفاء الفيصل، ولكنه آثر البقاء بعيدا وخدمة مدينته من خلال صومعته الفكرية الشماء .

ومن خلال تواصل الصاحب شخصيا مع د. مهدي عبد الهادي، وجد فيه إنسانا عمليا يقدس الوقت ويعشق الفكر والرأي الحر ويمارس قناعاته بانفتاح شديد ويفسح المجال امام الرأي الآخر مهما كان مخالفا له ويعطيه الفرصة والمساحة الكاملة والكافية للتعبير بحرية مطلقة عن رأيه ومكنونات نفسه.  فكنت ترى على طاولة الحوار رموزا ثقافية وفكرية من جميع التوجهات والاتجاهات احتضنتها “باسيا ” بكل التقدير والاحترام، فكانت منبرها ومنصتها الحرة على الدوام.

ذات مرة التقى الصاحب في طريق العودة إلى القدس من الخارج على الجسر مع د. عبد الهادي وعقيلته، حيث أصرا  على اصطحاب الصاحب معهما في سيارة الأجرة الخاصة بهما ، ولما تردد الصاحب قليلا حتى لا يتطفل عليهما،  حثه د. مهدي بكل مودة ومحبة.. ايها الصاحب.. اركب معنا.. لا تخجل فنح عائدون إلى القدس الحبيبة..  وفي حي واد الجوز حيث يقطنان.. طلب د. مهدي من سائق التاكسي إيصال الصاحب إلى حيث يشاء بعد أن دفع الأجرة عنه سلفا .

د. مهدي عبد الهادي.. من رجال الفكر الحر.. يؤمن بأن وعي الشعوب الرازحة تحت الاحتلال والظلم والقمع يسهم في تقصير معاناتها وبالتالي خلاصها من المحتلين والظالمين .

وهو شخصية فكرية رزينة..  أحبت القدس حتى النخاع.. لا يسعك الا ان تحترم هذه الشخصية الفذة، حتى لو اختلفت معها في الرؤى الفكرية أو السياسية .

كل الصحة والسعادة ل د. مهدي عبد الهادي.. هذا الرمز الفكري المقدسي اللامع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى