نوتة صبا
مليكة الحامدي | سوريا
إنّ لصبا بنت مدير الناحية ضحكة تشبه صوت البيانو بمعزوفة تتقنها أنامل موسيقار محترف .. .. ..
ما إن تستمع لحديث الشجو أو الخيبة أو الالتياع المتداول بين العاشقات من أترابها حتى تنطلق تلك الضحكة بشيء من اللامبالاة ..
كنّ يصمتن كلهنّ و ينظرنَ إليها منتشيات .. أو مغبطات .. أو حاسدات لتلك المعزوفة الخالية من وجع القلب ..
انطلق التهكم ذات مرة من شفاه بعضهن باتجاهها
: لولا هذا الصوت الأنثوي الفاتن لاعتراني الشك بأنوثتك يا صبا .. فأنت لا تملكين قلب الإناث ..
: صبا لا تملك الشغف تجاه أي شيء .. هي تتماهى مع الاعتياد و كأنهما نصفان لهيكل واحد ..
: أخشى ألا يغمرك الحب بعطره يوماََ فلا تجدي من يهديك وردة ..
لأول مرة رأين دمعة صبا تلتمع على وجنتها كحبة كريستال مذهلة ..
و قبل أن يعتذرن لها عما قلنه قبل هنيهات قالت هي و الغصّة تكتنف صوتها :
كان عازف بيانو .. لا يشبه شبّان الحي في شيء .. لم يكن جميلا كما تشتهي الأعين ، لكنه كان على قدر من وسامة لافتة تجعل أية فتاة تخطب ودّه ..
و كنت على قدر من اللؤم و الكبرياء حين كان يأتي إلى بيتنا في موعده المحدد بالثانية ليلقي علي الدرس المشار إليه مسبقاََ ..
بصوت رجولي واثق قال :
: ليتكِ تركزين ذهنك مع الدرس يا فتاة .. أنت ترهقيني بشقاوتك و تشتتك اللاداع له .. لستِ طفلة يا صبا .. هل تستطيعي الانتباه إلى أناملي لو سمحتِ ..
كنت أضحك كما فرقعة الألعاب النارية كلما زاد امتعاضه من شقاوتي .. و كم عجزت أن أُخرِج منه ذاك الوحش المتلبس بروح أمير يتقن التلفظ بأعذب الكلمات و أرقاها .. أمسكَ بسبّابتي بإصبعين يشبهان عينيه المنغمستين بالجدية ليضغط بها على أصابع البيانو .. سحبت يدي بقوة و رفعت كفي على نية صفعه ، فشدّ قبضته على معصمي و قال هامساََ : ما قُدّتُ غزوة على الجهل مرة ثم عدت منها بلا غنائم ..
و لم أقبل دعوة أبيك بالدخول إلى بيتك لأخرج منه دون صناعة “نوتة ” اسمها “صبا” ..
سأعلمك كيف تضحكين كما تضحك أوتار البيانو تماماََ .. شئتِ أم أبيتِ ..
……
في غرفتي فوضى عارمة ..
ثيابي متناثرة على السرير ..
كتبي تزاحم بعضها على الطاولة في عبث يستفز النظر ..
أشياء كثيرة مترامية هنا و هناك ..
تباََ .. أهذه الفوضى كلها أنا !!!! ..
عدت إليه مسرعة قبل أن يخرج
لم أجده ..
كان قد خرج فعلاََ ……
طلع الفجر و الأرق لامس شواطئ عينيّ بلون المغيب ..
يا إلهي ..
كيف تمتشق اللهفة بين ليلة و ضحاها ؟
كيف تغدو نبضات القلب كورالاََ لمايسترو صعد المسرح للتو ؟ ..
كيف يعتذر بيتهوفن عن موسيقاه أمام تلك الموسيقا التي أحدثها الكون في لحظة اشتياقي ؟ ..
لم أنم أكثر من غفوة محارب ..
الأرض تضطرب تحت قدميّ ..
عقارب الساعة تلسع أعصابي بثقل دمها ..
خزانة ثيابي بكل ما حوت
بكل ما حوت لم تعد تروقني ..
لم أرغب بالتهام أي شيء طوال النهار إلا أغنيات عبد الحليم و وردة و .. و .. و ….
يااااااه
أول مرة تحب يا ألبي و أول يوم اتهنى ….
يا ما على نار الحب قالولي و لقيتها من الجنة ..
أول مرة .. أول مرة ..
أذكر أني أعدت تكرارها عشر مرات ……………
و بحبك .. و الله بحبك ..
و الله و الله و الله بحبك
قد العيون السود في بلدنا يا حبيبي ……….
لم أشبع من الأغنيات ..
لم تخنقني قوارير العطر الفاخرة ..
حملت قلمي لأكتب شعراََ
فخذلني الإلهام ..
قمت لأرقص و أرقص
شعرت أني بهلوانة ..
جلست على أريكتي لأول مرة كما تجلس فتيات قصر الأحلام لتكون جلستي لائقة بجلسة عازف البيانو الأنيق ..
حلّ المساء .. حان درس ضحكتي ..
البيانو أحبني ..
ضحكتي أحبته ..
العازف أحب كلينا
تشكلت نوتة باسم صبا بوقت قياسي تحت سموات حب ظلل الثلاثي المتناغم ..
كنت أتعمد الانكسار في لحظات زعل لأحلّق فرحاََ بضياء روح ذاك الوسيم ..
كان يتعمد الجدية المطلقة في الدرس ليشاهد ثورة الاستنكار في وجه صبا الوادعة ..
يقول أني ساذجة
فأتقبّلها لإنّ الفكاهة لا تليق إلا به ..
أقول له كم أنت أحمق
فيغضب .. و أذوب أنا عشقاََ بخط النار المشتعل بين حاجبيه ..
قصص الغرام بيننا اغتيلت على يد مجتمع يزوج القلوب كما يشاء لا كما تشاء ..
اختار لي رجلاََ يناسب مقاس فكره ..
فيما بقيت روحي تئن تحت أصابع البيانو .