الدور العُماني في صناعة المعاجم ” الخليل بن أحمد وابن دريد.. أنموذجا ” في كتابي العين وجمهرة اللغة
شيخة الفجرية | سلطنة عُمان
بنزولِ الوحي القرآني المبجَّل على سيد البشرية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أتت الحاجة إلى التفاسير لألفاظ وكلمات هذا القرآن، تبع ذلك حاجة أخرى، وهو الوجود المعجمي الذي يفسر لغة القرآن مع اتساع رقعة المنتمين للدين الجديد، واختلاف ألسنتهم ونمو معارفهم وبون الرقع الجغرافية التي نبعوا منها ليكونوا في إطار دولة شاسعة الأطراف والثغور.
فكان التدوين هو النواة الأولى، والتدوين كما يقول ابن خلدون “رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس”، أو “صورة الصوت” كما يقول فولتير.
والمعجم لغةً: “هو قاموس، كتاب يضمُّ مفرداتٍ لغويَّةً مرتَّبة ترتيباً مُعيَّناً وشرحاً لهذهِ المفردات، أو ذكر ما يُقابلها بلغة أخرى”، واصطلاحاً: هو “الكتاب الذي يحتوي على شرح المُفردات والألفاظ اللغويّة وتوضيح مَعانيها وصفاتها ودلالاتها”. وقد سُمّي المُعجم بهذا الاسم “اشتقاقاً من الفعل (أعجم)، أي بمعنى أزال العجمة”، وفي كتابه علم اللغة شرف الدين الراجحي؛ أنه: “تطلق كلمة (معجم) في الاصطلاح على الكتاب الذي يضم مفردات اللغة أو أغلبها على ترتيب معين، أما في اللغة فتدور كلمة معجم على معنيين: أولهما: الخفاء والإبهام أو تنقيط حروف اللغة العربية وتشكيلها وتأتي بمعنى الإيضاح والإبانة”، والمعاجم العربيّة عدة أنواع؛ هي كالآتي: معاجم الألفاظ، ومعاجم المعاني، ومعاجم المُصطلحات، ومعاجم الأمثال ومعاجم المُفردات.
وكانت للعمانيين ريادة معروفة في الصناعة المعجمية، بدأت بكتاب “العين”، لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي “100 – 175 ه”، ثم معجم جمهرة اللغة لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد بن يعرب الأزدي (ت 321هـ)، الذي كتبه في فارس، بإيعاز من ابن ميكال (شيخ خراسان)، يقول الدكتور محمد عبد اللطيف علي في كتابه ” اللهجات العربية في جمهرة اللغة لابن دريد ” أنَّ الجمهرة: ” طبع في حيدر آباد في الهند سنة 1344هـ – 1952م، وكان في ثلاث مجلدات، لحق به مجلد خاص بالفهارس بتحقيق وعناية الشيح محمد السورتي؛ بمشاركة المستشرق الألماني كرنكو “.
قال أبو الطيب اللغوي عنه: “انتهى إليه علم لغة البصريين، وكان أحفظ الناس وأوسعهم علمًا، وأقدرهم على شعر، وما ازدحم العلم والشعر في صدر واحد ازدحامهما في صدر خلف الأحمر وأبي بكر بن دريد”، وروي عن الأسدي قوله: “كان يقال: إنّ أبا بكر بن دريد أعلم الشعراء وأشعر العلماء”، وعن هول ما لقيه ابن دريد من التقوّل وسيء الكلام قال “ياقوت الحموي”؛ متعجبًا من ذلك: “وعجيبة أن يتمكن الرجل من علمه كل التمكن ثم لا يسلم مع ذلك من الألسن”، ودافع عنه السيوطي قائلا: “معاذ الله هو بريء مما رمى به، ومن طالع الجمهرة رأي تحريه في روايته. ولا يقبل فيه طعن نفطويه لأنه كان بينهما منافرة عظيمة”، ثم شهد له المسعودي بقوله: “وكان ابن دريد ببغداد ممن برع في زماننا هذا في الشعر، وانتهى في اللغة، وقام مقام الخليل بن أحمد فيها، وأورد أشياء في اللغة لم توجد في كتب المتقدمين”. وجاءت حروف “الجمهرة” على الترتيب الألفبائي، والكلمات على الترتيب الهجائي وفق المنهج الآتي:
1- قسمت أبينة الكلام إلى ثنائي وثلاثي ورباعي وخماسي وسداسي ولفيف، مع تقسيمات فرعية، فالثنائي انقسم إلى:
أ- ثنائي صحيح.
ب- ثنائي ملحق ببناء الرباعي وهو المكرر أو الذي ضعف.
جـ- ثنائي ممثل وما تشعب منه مثل باء وثوي “اعتبر الهمزة من حروف العلة”. والثلاثي انقسم إلى:
أ- ثلاثي صحيح.
ب- ثلاثي يجتمع فيه حرفان.
جـ- ثلاثي عين الفعل منه أحد حروف اللين.
د- ثلاثي معتل الآخر ب ت “و – أ – ي”.
وأما عن الخليل وكتابه “العين”، فالخليل يتبع فيه طريقة الترتيب المخرجي، ويكون تبديل الحروف “بالانتقال من حرف هجائي إلى الذي يليه”، أمَّا المبادئ الرئيسية التي بنى عليها الخليل ترتيبه في كتاب العين يمكن حصرها إجمالًا في أمور أربعة:
أولًا: رتبت الكلمات ترتيبًا أبجديًا.
ثانيًا: نظمت الكلمات تبعًا لحروفها الأصلية فقط بقطع النظر عن الأحرف الزائدة فيها.
ثالثًا: نظام الكمية، فكانت حسب التقسيم الآتي:
1- الثنائي.
2- الثلاثي الصحيح.
3- الثلاثي المعتل.
4- اللفيف.
5- الرباعي.
6- الخماسي.
7- المعتل.
رابعًا: تنظيم حروف الكلمات بين “مستعملًا”، “مهملًا” ويعرف هذا التنظيم باسم “التقليبات”، وهو منهج الكتاب كله، إذ “رتب المواد وفق مخارج الحروف، فبدأ بالحروف الحلقية الآتي:( ع ح هـ خ غ)، ثم حروف الحنك الأعلى؛ وهي: (ق ك)، ثم حروف وسط اللسان، وهي: (ج ش)، ثم حرف الضاد(ض)، ثم حروف طرف اللسان مع أطراف الثنايا السفلى، وهي: (ص س ز)، ثم حروف الثنايا العليا وهي:( ط د ت)، ثم حروف أطراف الثنايا العليا وهي: (ظ ذ ث)، ثم حروف اللثة العليا وهي: (ر ل ن)، ثم حروف الشفتين وهي: (ف ب م)، واختتمها بالحروف الجوفية؛ وهي: (و أ ي).
قال عنه سفيان الثوري -رحمه الله-: “من أحب أن ينظر إلى رجل خلق من الذهب والمسك – فلينظر إلى الخليل بن أحمد”، وقال حمزة الأصبهاني -رحمه الله-: “لم يكن للمسلمين أذكى عقلاً من الخليل”، قال ابن دريد -رحمه الله- في مقدمة الجمهرة: “وقد ألف أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفرهودي كتاب العين، فأتعب من تصدى لغايته، وعنَّى من سما إلى نهايته”. وقال ابن فارس -رحمه الله- في مقدمة كتابه المقاييس حينما تحدث عن مصادر كتابه: “فأعلاها وأشرفها كتاب أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد المسمى كتاب العين”؛ وقال السيوطي -رحمه الله-: “أول من صنف في جمع اللغة الخليل بن أحمد ألف في ذلك كتاب العين المشهور”.
وتقديرًا لهذه الأسماء العُمانية الجليلة أقام النادي الثقافي ندوة الدور العُماني في الصناعة المعجمية (الخليل بن أحمد وابن دريد أنموذجا) من خلال كتابي العين وجمهرة اللغة)، بدأها الدكتور محمود الريامي بنبذة تعريفية عن كنوز التراث اللغوي العماني، ثم الصناعة المعجمية عند العمانيين، التي أكد فيها الدكتور أحمد الرمحي من خلال ورقته البحثية بأن: أكثر التراث العُماني مخطوط، وأن أغلب الآثار المعجمية العُمانية غير مكتملة، بالإضافة إلى أن غموض الشخصية سبب في اختلاف نسبتها مثل شخصية كُراع النمل، وهنا يقصد قلة الترجمات عن علماء اللغة والأدب العمانيين. بعدها استعرض مجموعة من المعاجم العمانية والمعاجم ثنائية اللغة باللغتين العربية والزنجبارية، وما تكتنزه من فوائد علمية جمة في هذا المجال.
أمَّا الشاعر والكاتب والباحث الكبير الدكتور سعيد الزبيدي، فقد جاءت ورقته ثرية عن كتاب العين للخليل بين المطبوع والمفقود، التي كشف فيها عن وجود نقولات من هذا الكتاب في 3 كتب شهيرة ومعروفة من أمهات الكتب العربية؛ فقال: لا يختلف اثنان في أن الخليل بن أحمد الفراهيدي كما قال أبو الطيب اللغوي في مراتب النحويين “الخليل مفتاح العلوم ومصرفها”، تحدث قائلًا: عند “المقارنة بين كتاب المرزوقي في “شرح الحماسة” وكتاب “العين” المطبوع للفراهيدي، وجدت أن عدد النصوص المتطابقة 51 نصًا، والنصوص المختلفة قليلًا بتغيير عبارة أو تقديمها عددها 37 نصًّا، والنصوص المختلفة كثيرًا عددها 23 نصًّا. كما عثرت على نصوص لم ترد في كتاب العين المطبوع وهو ما فتح بابًا أمامي لاستدراك ما سقط من المخطوطات التي حققت بعدئذٍ، فكانت هذه التجربة الأولى التي نشرتها في كتابي: الخليل صاحب العين سنة 1998″، ومضى يقدم المزيد قائلًا:” ثم وقفت على نصوص كثيرة لكتاب العين في كتاب تفسير التبيان للطوسي (ت 460 ه) فوجدت 95 نصًّا، … النصوص المتطابقة بين التبيان والعين 10 عشرة نصوص، ثم النصوص المختلفة 5 نصوص، ثم النصوص الأخرى ثمانون نصًّا. ثم وقفت على ما لم يرد في كتاب العين من هذه النصوص. وثلثت بالمتابعة في كتاب: “الاقتضاب في شرح أدب الكُتَّاب” لأبي محمدٍ البطليوسي (ت 521ه) وجدت فيه 78 نصًّا، فالمتطابق منها مع كتاب العين 52 اثنان وخمسون نصًّا، والمختلفة كثيرًا وقليلًا 16 ستة عشرة نصًّا، والنصوص التي لم ترد في كتاب العين وهي المفقودة 10عشرة نصوص ونشرت هذا في كتابي: نظرات في كتاب العين المطبوع سنة 2012 للميلاد” بعدها استعرض جهود تلاميذه _ طلاب الماجستير في جامعة نزوى_، الذين عثروا على مئات النصوص المتطابقة في كتاب الإبانة للعوتبي وكتاب المخصص لابن سيده؛ وما يزال البحث مستمرًا عن نصوص العين في الكتب القديمة.
وفي الجلسة الثانية التي: أدارتها الدكتورة شيخة المنذرية، تحدث الدكتور أحمد بالخير عن الصناعة المعجمية في مؤلفات الإمام القلعي ، ثم تحدث الدكتور زاهر الداؤودي عن الجهود المعجمية المعاصرة في ضبط ألفاظ الدارجة العُمانية، بعدها كشف النقاب عن مخطوطة عُمانية مجهولة من كتاب العين، بدأ الكشف في بحث الشيخ سلطان بن مبارك الشيباني وقدمه الأستاذ خليل الحوقاني، وهذه النسخة محفوظة في دار المخطوطات العمانية على رقم 237، وعدد أوراقها ما يساوي 300 صفحة، صُنفت على أنها كتاب في اللغة مجهول، وخطُّها ليس بالعتيق وليس بالحديث، ويستظهر الشيخ سلطان الشيباني على أنها من القرن10 الهجري”.
وهكذا فإن هذه الندوة تسلط الضوء على الدور العماني في الصناعة المعجمية، وتلفت النظر إلى أمرين في غاية الأهمية:
أولهما: ضرورة الإسراع في تحقيق ثم طباعة المخطوطات الملقاة هنا وهناك قبل أن يأتي عليها الزمن وصروف الأيام.
ثانيهما: ضرورة البحث عن المزيد من النصوص المفقودة من كتابي العين والجمهرة، بالإضافة إلى توجيه الدارسين في الجامعات العمانية إلى البحث عن الكتب العمانية المفقودة مثل كتب العوتبي وغيره من علماء عُمان.