أساتذتي.. لوحة من “الزمن الجميل”

ناصر أبو عون 

مع الإطلالةِ الأولى على تفاصيلِ المشهدِ اخْتَرَمَتْ ذاكرتي المثقوبة صورةُ “عم رفعت عِمارة” الشهير باسم “رفعت المصوّراتي” الذي كان يُطِلُّ بطلعته البهيّة، وجلبابهِ الأنيق، ويحرثُ القرى جيئةً، وذهابًا متأبطًا “الكاميرا” منتفخةٌ جيوبه بالحكايا، والصور؛ ذاك “الرجل المشّاء” على عجلٍ يدلفُ في الأزقةِ والحارات، يحفظُ ملامحنا، ويسردُ أَنْسَابَنَا.. مع صورة عم رفعت تداعت أفكار “ألببير كامو” على جمجمتي المهترئة وتذَّكرتُ ساعتها مقولته: “إن الإنسانَ الذي أدركَ عبثيةَ الوجود يجد أن معنى الحياة يوجد في النزاع الدائم بين العقل وبين الواقع الذي يفوقه”. ووفقًا لذلك، فإن “اختزال الواقع وتيسيره يعني إفقار الإنسان لنفسه”. وقد اعتبر كامو أن “النتيجة الرئيسية للعبث هي ارتقاء الوعي الإنساني تدريجيًّا، ليصبح شاهدًا على الحقيقة التي تتحدى العالم المتفوق عليه.

في هذا الركنِ القصيّ من العالم تتشبث في (اللاوعي) “حكايات الطفولة”، و”أحلام بهية” رسمها في مخيلتي معلمي أستاذي “إسماعيل خفاجي” الذي يتوسط “الطيبين الأربعة” الرجل الذي علَّمني فك رموز أول مسألة رياضية بعد أن نجح “معلم آخر” في إقامة حاجزٍ من “البلادة الفجّة” بيني و”عَالَم الرياضيات” كان ذلك في “حصَّة المسجد المجانيّة”، ومازال هذا الخفاجي يستحوذُ على “صندوق المبادئ” المنزوي في “دهليز اللاوعي” داخلي، والذي يستدعيه عقلي الباطن عند الاصطدام بأفكار المتحذلقين على أرصفة الحياة من الكائنات البشرية من شاكلة “الْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَ‌دِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ”.

وفي أقصى يسار الصورة “عمّ خليل قرني الطبّاخ” الرجل الذي عرفتُ على يديه “معنى، شكل” الصحيفة المدرسية أيامها كنتُ مشدودًا بزخارفه، وتلاوينه، وإبداعه في صناعة الحدود الفاصلة بين الموضوعات على أرضيّة “الصحيفة المدرسية”، ودقته المتناهية في “اختيار الصورة الصحفية”، وتوزيعها على المساحات والتي أدركت فيما بعد أنّه علمٌ كبير يطلقون عليه في عالم الصحافة اسم “التيبوغرافيا”.. مع إطلالة كل عام كان الأستاذ خليل يبدع أكثر في اختيار “اسم الصحيفة”؛ على الرغم من ثبات روتينه اليوميّ – كما طبعته حياتنا القرويّة – ، إلا أنه كان يأسرني بنظارته الشمسية، وأناقته القاهريّة في بلادٍ طرقاتها ترصفها يوميًا الجواميس والأبقار بروثها، وتنجح الأمطار الشتوية في رسمة لوحة شتويةٍ كالحةٍ على وجهها.. كان يُطلّ بابتسامةٍ خفيفةٍ وعينان مخبوئتان تحت نظارته “البنيّة” في زمان كانت النظّارة فيه رمزًا للأريحية، وسمت للطبقة الارستقراطية بينما كانت مِشيتهِ الهوينى بصحبة “ناظر المدرسة” صباحَ مساءَ؛ ذهابًا وقفولا بمثابة “ساعة بشريَّة” أميّز بها الوقت.

وفي يمين الصورة الأستاذ محمد أمين موسى، كان رجلا طيب القلب وإن بدت ملامحه جامدة، وفي عيونه بساطة بادية، وفي أحاديثه مسامرة ما تزال حكاياها باقية في الأزقة وبين قاعات الدرس، يدخل السرور على الناس وإن بعد عهده واندرس قبره.

ويتصدر المشهد بصورته الأنيقة وجها ومُحيّا، ونورا وبهاءً وشكلا ومعنى الأستاذ محمد القللي أطال الله عمره، عاش عصاميا، وأمسك عليه لسانه، وربّى عياله على الأنفة والعطاء وجنَّبهم مراتع السوقة والدهماء، وقبض على جمر الطاعة عابدا ساجدا.

وفي خلفية المشهد الأستاذ فتحي عبد العظيم العجمي وقد نذر نفسه للعمل ليل نهار، يسير بين أهله مصلحا، ويجالسهم مؤانسا، ويسترضي مُغاضبا، ويُمازح عاتبا، ولأخوته مربيا وناصحا، حتى إذا أظهرت له الدنيا ظهر المجن سلّم الراية لمن هو أهل لها وغدا لأحفاده مرافقا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى