الأسير المريض حسين مسالمة .. الصوت والصورة
عيسى قراقع | فلسطين
بعد 18 عاماً داخل سجون الإحتلال نشرت وسائل الاعلام صور الأسير المريض بالسرطان حسين مسالمة القابع في مستشفى سوروكا الإسرائيلي بعد ان تم إخلاء سبيله نتيجة جهود حثيثة بذلت لإنقاذ حياته حيث وصل إلى وضع صحي خطير جداً، وبعد ان أدركت حكومة الاحتلال الاسرائيلي وأطبائها أن الاسير مسالمة قد مات روحياً، وما ينبض في جسده تحت تأثير الأجهزة والآلات والأدوية لن يطول كثيراً، فسوف يعود الى السجن الذي يشبه القبر ولن يشعر بالحرية.
إنه الغفراج المعلق بين الموت والموت، وهو التضليل الإسرائيلي الماكر الذي يحاول أن يبدو بوجه إنساني، لكنها إنسانية الجلادين الذين انتزعوا إنسانية الىخرين وأعمارهم بأساليب متوارية.
صورة الاسير حسين مسالمة سبقت الصوت، الصورة صامتة بلا كلام، خرساء تماماً، مثبتة على الاجهزة الطبية، برابيش في الانف والرقبة، الصورة ذابلة بلا هواء، هيكل عظمي طحنه المرض وسنوات السجن القاسية، الجسد ذوبه المرض الخبيث، الجسد صار هو القبر في عالم الجدران وسياسة الإهمال الطبي المتعمدة.
الأسير حسين مسالمة لازال في سرير الغياب رغم انسحاب الحراس من أمام غرفته في المستشفى، ذاكرته مسجونة ومقيدة، هلوساته تخاطب أصدقائه الاسرى، روحه تحلق في فضاء المحشورين في أقفاصهم الحديدية تحت السياج.
ما هذه الحرية التي لا تسير على أقدامها إلى الأمام؟ دائرة جنائزية مغلقة، عودة إلى البرش والظلمة، الحرية تأخذ منه الحياة كلها وتعطيه النسيان.
هرع اهله وأصدقاؤه لزيارته في المستشفى، لم يتعرفوا عليه، لم تكتمل فرحتهم، الأسير حسين ينظر إلى من حوله بعيون مفتوحة حمراء، الجميع وصل متأخراً، ظلت روايته مدفونة بين أضلاع قلبه، لا يستطيع الآن أن يسرد حكاية الأسرى الذين يموتون ببطء، جسده هو الحكاية كلها، جسده هو الجريمة الكبرى الذي ترتكب بحق الآلاف من الأسرى، عيناه الميتتان تسأل أين تقع الحياة؟
وصلت صور الأسير حسين مسالمة إلى المجتمع الدولي، خرجت من التابوت وانتشر ضوؤها ودار فلكها على الهيئات والمؤسسات الحقوقية، وصلت المحكمة الجنائية الدولية، الصورة لائحة اتهام عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ترتكب بحق الأسرى خلف القضبان، وصل الشهداء: داوود الخطيب وبسام السايح وفارس بارود وكمال أبو وعر وسعيد الغرابلي وفادي الدربي ونعيم شوامرة وميسرة أبو حمدية وقاسم أبو عكر وياسر حمدونه، قائمة الضحايا طويلة وطويلة.
الأسير حسين مسالمة لن يتمكن من المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي القادمة، لن يصل صوته إلى صندوق الاقتراع، هو حر وليس حراً، هو جسد قتلوا حقه المقدس بالمواطنة، هو الحالة كلها: أجساد تتزاحم وتتنافس ولكن على باب القيامة، أجساد نصف ميتة بلا حق تقرير المصير وبلا حقوق سياسية وقومية.
صورة الاسير حسين مسالمة هي صورتنا: الحرية المسقوفة التي تجعل المرء يخشى الحرية، العيش في انابيب صندوق النقد الدولي والدول المانحة والتغذية القسرية، الانتظار حتى يفرج القراصنة عن اموال الشعب الفلسطيني وجثثه المحتجزة، النضال حتى استديوهات النجوم وتفحيط المقاومة.
ماذا ترى أم حسين في عيني ابنها الحائرتين؟ ترى بياضا واسعاً وآلاف الأرواح المقيدة، ترى زنازين معتمة وشمساً بعيدة، ترى شعباً يحمل صلبانه على كتفيه صامداً يتحدى الفناء والإبادة.
الاسرى الفلسطينيون تحولوا في زمن العولمة والابرتهايد الإسرائيلي الى مجرد صور، وما أكثر الصور، صورٌ في إطار عظمي، وسنة وراء سنة يتهتك الغطار، تبهت الصورة، تدبلج وتمحى وتشيخ ملامحها في تجاعيد الزمن، الصورة صرخة، الصورة حاملة للفكر والحقيقة.
نظر كل الناس إلى صور الاسير المريض حسين مسالمة، لم يصدق أحد أن هذه الصورة لإنسان من لحم وعظم وهواء ونار وذكريات، العين لا تخطئ، الصورة هي لغة الواقع المرير، العين نافذة الروح في أطلالها على العالم، من يطلق روح الصورة من اللامرئي إلى المرئي؟ ان لا يكتفي بالفرجة والتأمل الرمزي.
صور الأسير حسين مسالمة التي انتشرت ودخلت كل بيت هي انعكاس لصور كثيرة تقع في الخلفية الأخرى المظللة، أسرى واسيرات يتعرضون للموت والقمع والحرمان، كل من يفكر بالمقاومة و يدافع عن كرامته وحقه في الحياة سيكون مصيره كهذه الصورة المشلولة، هي فلسفة المستعمرين التي تسعى إلى نقلنا من صورة غلى صورة، أن لا نشبه أنفسنا، غعادة هندستنا وصهرنا في فرن منظومة الاحتلال، الموت لا يأخذ جسد الإنسان فقط وغنما يأخذ المكان الذي عاش فيه.
صورة الأسير حسين مسالمة تنطق بما قاله الشاعر العربي أدونيس:
الموت يجيء متقطعاً، الحياة بطيئة لا تكاد أن تتحرك، ولا نكاد أن نحس بحركتها البطيئة إلا إذا حدقنا فيها طويلاً حيث تقيم في منزلها الأفضل والأبهى: جسد الإنسان.