الصحف الورقية

د. علي زين العابدين الحسيني- مصر

على هذه الطريق التي تقطعها قدماي كلّ صباح في أيام الدراسة كان أحب المشاهد إلى قلبي رؤية بائعي الصحف والمجلات في محلاتهم، حيث كان منظر هذه الصحف يروقني ويشدني، ويأسر قلبي، ولا أكاد أتمالك نفسي حين رؤيتها فرحاً وسعادة.
إذا ما اقتربت من المكان فسرعان ما أشم رائحة ورق الصحف الفواحة، وأستمتع بهذا الجو الثقافي مما يجعلني أقلب نظري في هذه المجلات والصحف، وليت أهل العطور يتفننون فيخرجون لنا رائحة عطر الورق، وأظن أن ثم رواجاً لها سيكون بين العاشقين للكتب.
لم يكن في استطاعتي وقتذاك إلا شراء صحيفة واحدة ومجلة أسبوعية، وأما المجلات الشهرية كمجلة الأزهر ومنبر الإسلام فكنت أداوم على شرائها، وقد حصل لي من أعدادها فيما لو جُمع خرج في مجلدات؛ لأني داومت على ذلك لسنوات.
كانت المجلات لساناً حياً منشوراً للثقافة والفضيلة بين الناس، وأما الصحف فهي زادٌ يوميّ لتحصيل المعرفة والتزود من الثقافة، ومن خلالهما تتعرف على علومٍ مختلفة كثيرة، وأعظمها إلمامك بأسماء الكتاب والمثقفين والمشتغلين بالحركة الفكرية على الساحة.
يكفي أن أخبرك أن بداية علاقتي مع أستاذي الأديب محمد رجب البيومي -رئيس تحرير مجلة الأزهر- قد امتدت لسنوات قبل لقائه من خلال الاطلاع على مقاله الشهري، حتى ألفت أسلوبه، وتعرفت على أفكاره، مما سهل عليّ أمر الاتصال به فيما بعد؛ إذ كان التواصل فكرياً قد تم من قبل.
مع الحنين لأيام الصحف والمجلات الورقية التي ذهب محبوها كأي شيء جميل عزّ أربابه، فيمكن أن أتذكر عدة مواقف مع باعتها، ومن الذكريات الجميلة التي لا تفارق مخيلتي صورة الرجل الكبير المسن الذي كان يجلس بجانب البائع يقلب الصحف، ويقرأ سطورها سطراً سطراً.
لاحظت شيئاً غريباً في هذا الرجل القارئ النهم أنه يجلس مدة طويلة في هذا المكان مما جعلني أستفسر عن أمره، فحكى لي بائع الصحف أنّه رجل شغوف بالقراءة ومعرفة الأخبار على كافة أنواعها، فهو يريد أن يعرف كل شيء عن أي شيء.
يأتي في هذا الموعد يومياً، ويكاد لا يتغيب عنه إلا لمرض أو سفر، وله برنامج خاص في قراءة الصحف؛ حيث يشتري صحيفة واحدة، فإذا انتهى منها ردها، وأخذ أخرى يشرع مباشرة في تقليب صفحاتها، حتى ينتهي به المقام إلى الاطلاع على أغلب الصحف اليومية.
تمتد هذه الرحلة الفكرية معه ساعات، وينتهي به المطاف إلى أخذ صحيفة آخر أمره لم يطالعها من قبل؛ لتكون جليسه فترة المساء، حقاً إن رقي المجتمع هو رقي أفراد، ورقي الأفراد لن يكون إلا بعد التشبع بالثقافة.
للصحف الورقية طقوس وعادات عند محبيها، فهي جزء من شخصياتهم، وعنوان حياتهم، وكان من عادة بعض أقاربي المشتغلين بقراءة الصحف اليومية أنه كان حريصاً على تحصيل جريدة “الأهرام المصرية” في طبعتها الأولى، وإذا فاتته الطبعة الأولى حزن حزناً شديداً.
مهما زاحمت الصحف الإلكترونية الصحفَ الورقيةَ، فلا يمكن أن تكون بديلاً عنها، وإنما هي فرعٌ ومكملٌ لها، فالصحف الورقية كانت ولا تزال هي الأصل والأساس، ولن تفقد مع طول الزمن أصدقاءها الأوفياء المداومين على شرائها وقراءتها بصورة يومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى