تشكيل الحكومة أم إعادة تشكيل ” الطائف ؟
توفيق شومان | مفكر لبناني
يغلب على ظاهر الإشتباك بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري، طابع النزاع او الصراع على تشكيل الحكومة، ومع غلبة ظاهر الأشياء على باطن المضمون، تتقدم إلى واجهة الخطاب العام مفردات ” الثلث المعطل ” و التحاصص الوزاري وما يقاربها أو يبتعد عنها خطوة في التعبير أو قيد أنملة في التفسير .
في واقع الأمر، يبدو الإشتباك المتأجج بين الرئيسين، متجاوزا لمجمل المفردات الظاهرة والمتداولة، ليغور عميقا في صلب النظام السياسي اللبناني ومستقبله ومصيره واحتمالات ثباته على بناءات مرحلة ما بعد ” دستور الطائف ” أو احتمالات إدخال تغييرات على تلك البناءات ، بحيث يمكن إسقاط توصيفات شتى عليها ، من مثل : التطوير أو التعديل أوالتكريس لمجموعة الأعراف التي أنتجتها الممارسات السياسية في السنوات القليلة المنصرمة ، وصولا إلى ما يمكن أن يذهب إليه أصحاب مذاهب التوصيفات الراديكالية ، حين يحلو لهم القول بأن مجريات الصراع على تشكيل الحكومة لا تخرج عن سياق المحاولات الآيلة ل ” الإنقلاب على الطائف”.
و على هذا الأساس ، يمكن الوقوف في منطقة وسطى ومتوازنة ، للإطلالة على حقائق ما يجري والنقاش حولها .
ويمكن أيضا ، الإستعانة بما قاله أرسطو في لحظة إغريقية مضت ، فالفيلسوف قال : إذ أردت رؤية واضحة لا تغمض إحدى عينيك .
ونزولا عند ما قاله ” المعلم الأول “، يغدو من الضرورة الإشهار والإجهار بأن الصراع الدائر بين الرئيسين عون والحريري ، أو بين الرئاستين الأولى والثالثة ، محوره يدور حول التالي :
ـ رئيس الجمهورية هو رئيس جمهورية أم رئيس دولة ؟
ـ رئيس الجمهورية هو حكم أم حاكم ؟
ـ رئيس الجمهورية هو شريك في السلطة أم رئيس من دون سلطة ؟
ـ رئيس الجمهورية هو فوق السلطات ، وماذا يعني ذلك ؟ وما وجه الشبه أو البُعد بين رئيس الجمهورية الذي لا يحكم وبين الملك الذي يملك ولا يحكم كما هي الحال في بريطانيا أو سواها ؟.
هذه التساؤلات ، عادة ما تغطيها عناصر الإشتباك حول ظاهر التشكيل الحكومي ، ومثل أية علاقة بين الظاهر والمضمون ، يبرز الأول ويبقى الثاني تحت طبقة غير مرئية ، وفي حالة الإشتباك الراهنة بين عون والحريري يمكن تفصيل المضمون وشرحه عل الوجه الآتي :
بحسب الدستور اللبناني تقول الفقرة الرابعة من المادة 53 إن رئيس الجمهورية ” يُصدر بالإتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة “، وفي الفقرة الثانية من المادة 64 جاء أن رئيس مجلس الوزراء ” يجري الإستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها “.
وكما هو ملاحظ ، أن فقرتين من المادتين 53 و64، تنصان على حضور توقيعي رئيسي الجمهورية والحكومة، وإذ تنص الأولى على الإتفاق بينهما ، فإن مجال الإشكال والتأويل والإجتهاد يكمن في تفسير “الإتفاق” بين الرئيسين، وبالتالي ما هو الخط الدستوري الأحمر الذي يحول دون تمدد صلاحيات رئيس الجمهورية لتشمل هيكل التأليف الحكومي بأكمله، وفي الوقت نفسه ما هو الخط الدستوري الأحمرالذي يمنع الرئيس المكلف من الإنفراد بعملية التشكيل ،واستطرادا صناعة السياسات العامة للدولة.
هنا تتجه الأنظار إلى مواد دستورية أخرى وفي مقدمتها المادة 64 أيضا ، وهي تنص على:
“رئيس مجلس الوزراء هو رئيس الحكومة ، يمثلها ويتكلم بإسمها، ويُعتبر مسؤولا عن تنفيذ السياسات العامة التي يضعها مجلس الوزراء ” .
وأما المادة 65، فمنطوقها يقول: “تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء”، وفي الفقرة الأولى من المادة نفسها، أن من صلاحيات مجلس الوزراء ” وضع السياسات العامة للدولة في جميع المجالات “.
هذه المواد الدستورية، بالتحديد ، وغيرها بطبيعة الحال، خاضعة للشد والجذب التأويليين، وهي ميدان الصراع الظاهري الدائر حول تشكيل الحكومة، ولكن مضمون الصراع يكمن بين : مساعي التأسيس للشراكة في السلطة التنفيذية وبين المساعي لردع الشراكة تلك ، والدفاع عن حصرية السلطة التنفيذية في مجلس الوزراء .
هنا بالضبط يتضح مضمون التعقيدات حول تشكيل الحكومة ، أي إعادة النظر أو عدم إعادة النظر ، ولو في الأعراف والممارسة ، بصلاحيات كل من رئاستي الجمهورية والحكومة ، ومن شأن مآلات هذا الصراع أن تؤدي إلى هاتين النتيجتين :
ـ في حال نجح الرئيس ميشال عون وفريقه في كسب جولة الصراع حول الشراكة في السلطة التنفيذية ، يكون قد فتح الباب أمام تكريس نتائج الجولة الصراعية ، بالعرف أو بالنص حين يأتي آوان تعديل الدستور ، فأي رئيس للجمهورية بعد عون ، سوف يسير على خطى العُرف أو النص المنشود .
ـ في حال جاءت نتائج جولة الصراع الحالية لصالح الرئيس سعد الحريري ، يكون قد أقفل الباب أمام الشراكة في السلطة الإجرائية ، ويغدو من الصعب على أي رئيس مقبل للجمهورية ، أن يفتح باب المراجعة حول الشراكة التي تنشدها الرئاسة الأولى .
بصرف النظر عما تتأفف منه وتسعى إليه الرئاسة الأولى الحالية ، من شراكة مفقودة او منشودة ، فالأمر ليس مستجدا ولا طارئا ، بل هو رفيق مرحلة ما بعد ” الطائف” ، وفي العودة إلى ما قبل التسوية الرئاسية بين تياري ” المستقبل ” و” الوطني الحر ” في عام 2016 ، وإلى ما قبل انفجار وتشظي هذه التسوية في تشرين الأول / أكتوبر 2019 ، حين استقال الرئيس سعد الحريري من رئاسة الحكومة ، فإن نماذج النزاع حول الشراكة تحفل بها المراحل والعهود الرئاسية منذ التسعينيات الماضية ، ومن وقائعها ما يلي :
يقول الرئيس سليم الحص في كتابه ” للحقيقة والتاريخ ” عن الرئيس إميل لحود : ” بعد تجربتي الغنية معه ، قائدا للجيش ورئيسا للجمهورية ، أقول : لو كان في لبنان رجل واحد لا طائفي ولا يعرف للطائفية معنى في فكره ووجدانه وسلوكه ، فهو إميل لحود ، كان كذلك وبقي كذلك ، إن من ينصف الرئيس لحود يعترف بأنه رجل نبيل ونزيه ومستقيم ووطني وصادق “.
هل هذا كل شيء ؟
لا …
يقول الرئيس الحص :
” لقد أساء إلي الرئيس لحود مرتين ، وكان ذلك في يقيني ، من حيث لا يريد ولا يقصد ، مرة حين كتب مباشرة إلى أمين عام الأمم المتحدة كوفي أنان في نيسان / إبريل 2000 ، من دون المرور بي والتشاور معي بصفتي رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية ، وذلك في موضوع إعلان إسرائيل عزمها الإنسحاب من لبنان وفق القرار 425 ، والإساءة الثانية غير المقصودة ، وقعت في 11 حزيران / يونيو 2000 ، حين كتب مجددا إلى الأمين العام للأمم المتحدة ، بعد الإعلان عن أن كوفي أنان يعتزم تقديم تقرير إلى مجلس الأمن حول النتائج التي توصلت إليها الأمم المتحدة في موضوع رسم الخط الأزرق “.
الرئيس سليم الحص ، يتحدث عن ” إساءتين ” بالرغم من أنهما غير مقصودتين ، لكنهما تختزنان في أعماقهما ” معنى التجاوز ” ، حتى و لو لم يكن مقصودا ، ومعنى حدود صلاحيات رئيس الجمهورية و رئيس الحكومة ، وبالأخص صلاحيات رئيس الجمهورية في مجال السياسة الخارجية ، ومن هنا تأتي أبعاد إشارة الحص في معرض استعراضه ل ” الإساءة الأولى ” بقوله ” بصفتي رئيسا للحكومة ووزيرا للخارجية “.
ماذا في جعبة الرئيس الياس الهراوي ؟
يقول الهراوي في كتاب ” عودة الجمهورية ” إن ” التعامل مع الرئيس رفيق الحريري لم يكن سهلا ، فهو يعتبر أن كل ما يريده يجب أن يتحقق بسهولة ، وحاول الإيحاء بأنه هو الحاكم ، وفيما كان في دمشق ، نشرت صحيفة الأنوار خبرا عن تعديل وزاري محتمل وعن شروط أضعها لبقائه في الحكم ، وفور إطلاعه على الخبر اعتبر أن مصدر الخبر هو القصر الجمهوري”.
وفي رواية أخرى يسردها الرئيس الياس الهراوي ، وترتبط بمشروعه حول الزواج المدني يشرح و يقول ” نشأ خلاف بيني وبين رئيس الحكومة الذي كان يعتبر مجلس الوزراء خاتما في إصبعه يحركه كما يشاء “.
في هاتين الروايتين يجدر التوقف عند ملاحظتين : الأولى : حديث الهراوي نقلا عن صحيفة ” الأنوار ” وشروطه لبقاء الحريري على رأس الحكومة ، والثانية : قول الهراوي إن الحريري يعتبر الحكومة خاتما في إصبعه.
لا شك ان ما يرويه الهراوي ، ينطوي على الإفشاء بنزاع حول صلاحيات ودور كل من رئيسي الجمهورية والحكومة ، وإذ كانت المرجعية السورية آنذاك ، تفصل بتحديد العلاقة بين الجانبين عبر القول الفصل بترسيم مواطن الخلافات والتنازع حول الصلاحيات كما هو وارد أكثر من مرة في كتاب ” عودة الجمهورية “، فإن السؤال الذي يوجز حاضر النزاع والصراع بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف ، يغدو متمحورا حول الآتي : من هي المرجعية التي تحوز على كلمة الفصل وقدرة الفعل بينهما؟.
لا إجابة عن هذا السؤال ، ولذلك ، ليس من السهولة بمكان أن يقال إن توافقا مفترضا على تشكيل الحكومة ، يمكن أن يزيل خطوط الإشتباك الساخنة بين الرئاستين ، ذلك أنه حتى لو أزيلت هذه الخطوط بقدرة قادر وأعقبها انفراجة التشكيل ، فالخطوط نفسها سوف تنتقل إلى داخل مجلس الوزراء ، نزاعا وصراعا ، حول من تثقل موازينه ومن تخف موازينه في الحكومة المفترضة ، ومن هو صانع القرار الأول في مجلس الوزراء ، ومن له اليد الطولى في رسم السياسات العامة للدولة .
كلمة ختامية :
يقول أحد أقطاب ” اتفاقية الطائف ” النائب البير منصور في كتابه ” موت جمهورية ” :
” يمكن تلخيص محتوى اتفاق الطائف في أمرين اثنين : صيغة حكم داخلية قوامها نقل السلطة التنفيذية من رئيس الجمهورية إلى مجلس الوزراء ، وتنظيم العلاقات بين لبنان وسوريا “.
في الأمرين لم ينجح اللبنانيون
هل مايشهده لبنان في هذه الآونة ينطبق عليه قول غير شائع كثيرا ، فحواه ومحتواه ومعناه : إعادة تشكيل ” الطائف “؟
ربما هذا التعريف قد يكون أعمق تعبيرا من القول المحصور بالنزاع حول تشكيل الحكومة .
ربما … لنمعن النظر .