وقفات مع التصوف… لذة القُرب
د. عبد التواب أبو زيد | كاتب مصري
إن التصوف الحقيقي هو صفاء القلب لله تعالي وإفراده بالمحبة والعبادة، وأن كان الفقه الإسلامي قد عني بتوضيح أصول الاسلام وأحكامه من شهاده وصلاه وصوم وذكر وحج وشرح، واستفاض في توضيح معني كل ركن فيهم وأيضا بتوضيح معاني الإيمان وهو أن المسلم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره واليوم الآخر والحساب والعقاب فإن التصوف هو الركن الثالث من أركان الايمان وهو الإحسان أي أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، أي صفاء القلب من الأغيار ومن حب الدنيا وما ذاتها وشهواتها وأن يكون المؤمن أثناء صلاته وذكره دائم التفكير في الله تعالي وعظمته وقدرته وجلاله وكماله الرحمن (فاصطبر لعبادته هل تعلم له سميا) فهو سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء هو الجميل وأصل الجمال كله الذي لا يفني ولا يزول وهو نور السموات والارض لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار سبحانه وتعالي. وأهل التصوف لما علموا بقلوبهم هذه الحقائق وتذوقوها رقت قلوبكم واستنارت بصائرهم وذكت نفوسهم وتعلقوا بالله وحده لا يشغلهم عنه شاغل ولا تشغلهم الدنيا بمتاعها الفاني أتذكر قول السيدة رابعة العدوية رضي الله عنها وهي المحبة المتيمة بحب الله تعالي تدعوه فتقول: اللهم إني أعوذ بك من كل ما يشغلني عنك ومن كل ما يحول بيني وبينك .
وكانت السيدة رابعة متيمة بحب الله تعالي تصلي لله بعد الفرائض مئات الركعات قالوا ثلاثمائة ركعة كل ليلة حبا لله بخشوع شديد وخوف من الله وتبكي وتقول: إلهي غارت النجوم وما من العيون وأغلقت الملوك أبوابها وبابك أنت يا رب مفتوح للسائلين لا أريد من الدنيا إلا ذكرك ولا من العقل إلا رؤيتك إلهي لست في البلوي ولا أشكو من البلوي مرادي منك يا سؤلي بلا من لا سلوي وإن أعجبتني الدنيا وأن اعطيتني العقبي فلا أرضي من الدارين إلا رؤية المولي رضي الله عنها وأرضاها.
إذن التصوف يعتني بتطهير النفس البشرية وتذكيتها بالعبادة والذكر الدائم للمولي جل وعلا لكي ترتقي من النفس الأمارة بالسوء الي النفس المطمئنة من ظلمات المعاصي والذنوب الي نور الطاعة ونعيم القرب من رب العالمين من ضيق وكدر الشهوات الي جنة الأنس بالله تعالي وحلاوة منتجاته والتنعم بذكره وذلك عملا بقوله تعالي: (قد أفلح من تذكى)
ويعني التصوف أيضا بدوام مراقبة الله تعالي وخشيته في السر والعلن قال أحد العارفين بالله تعالي وهو محمد بن سوار رضي الله عنه موصيا ابن أخته وهو غلام صغير: يا غلام قل بقلبك قبل لسانك وأنت تتقلب في فراشك ليلا الله معي الله ناظر إلي الله شاهد علي وداوم على ذلك طيلة حياتك فقال: سيدي سهل فقلت بقلبي هذه الكلمات البسيطة الألفاظ ولكن كبيرة المعني فوجدت لها حلاوة كبيرة كلما تكررها أجد حلاوة إنه الارتياح النفسي لمراقبة الله تعالي فمن كان الله معه وبنظر إليه ومطلع عليه فهل يعصاه؟ بالطبع لا
وذلك تحقيقا لما في الآية (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)
أيضا قال الله تعالي (وهو معكم أينما كنتم) وما أحوجنا هذه الأيام لتلك الكلمات في زمن الفتن التي أصبحت كقطع الليل المظلم يصبح الرجل فيه مؤمنا ويمسي كافرا ويمشي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا.
ويمر الموصوف في طريقه الي الله بثلاث مراحل هن التخلي والتحلي والتحلي بالتخلي معناه أن يتخلي المؤمن من كل الصفات القبيحة مثل الطمع والكذب وحب الظهور وحب الجاه والرياسة وحب المال وتحبون المال حبا جما بأن يجعل المال وسيله وليست غاية
وأيضا يتخلى عن حب النساء والنظر لهن والافتتان بهن طاعة لقول الرسول عليه الصلاة والسلام ما تركت فتنة بعدي أضر على الرجال من النساء والنفاق والكبر والنميمة والغيبة هذا هو التخلي أما التحلي بأن يتحلى المؤمن بالصفات الطيبة مثل الصدق والإخلاص والزهد في الدنيا وكف النظر إلى الحرام والوفاء بالعهد و دوام المراقبة والخوف من الله تعالي والخشوع في الصلاة ودوام ذكر الله والصبر علي البلاء هذا هو التخلي
أما التجلي فهو عطاء الله ونفحاته وكرمه للمؤمن الذي تخلي عن الصفات المذمومة وتحلي بالصفات الطيبة فينعم عليه بنعمة الانس به سبحانه وتعالي وحلاوة العبادة ومشاهدة الأنوار ومطالعة الاسرار ورؤية الأنبياء والمرسلين ورؤية حضرة رسول الله صلي الله عليه وسلم يقظة ومناما واله الطيبين والصحابة رضوان الله عليهم وأنوارهم الربانية
وفي ذلك يقول أحد العارفين بالله
قلوب العارفين لها عيون تري مالا يراه الناظرون
وأجنحة تطير بغير ريش إلى ملكوت رب العالمين
وألسنة بأسرار تناجي تغيب عن الكرام الكاتبين
ومن أمثلة أهل التصوف سيدنا أبو القاسم الجنيد وهو سيد هذه الطائفة وتلميذه سيدي أبو بكر الشبلي وشقيق البلخي والحلاج والسيدة رابعة العدوية وسيدنا أبو سفيان الثوري والحسن البصري داوود الطائي والسهروردي وأبو الحسن الشاذلي وابن مميش والسيد أحمد البدوي رضي الله عنه وأبو سليمان الداراني وغيرهم الكثير من قدامى المتصوفة
وفي العصر الحديث ظهرت الطرق الصوفية وتنوعت كل طريقه لها أوراد وأذكار وأحزاب خاصه بها يلقنها شيخ الطريقة المريد المبتدئ الذي يريد سلوك الطريق الصوفي مثل الطريقة الرفاعية والطريقة الشاذلية والطريقة الخلوتية والطريقة المحمدية والطريقة القادرية وكل طريقه لها فروع وشيخ مسؤل عنها يسمي شيخ الطريقة يعطي العهد والأوراد لاتباعه كما ذكرنا سابقا.
وكل الطرق هدفها واحد وهو الوصول إلى صفاء القلب لله ومعرفة الله والأنس به وتوحيده ورؤية الأنوار وحب الله تعالي
ومن أمثلة متصوفي العصر الحديث الشيخ الإمام عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الأسبق والشيخ محمد متولي الشعراوي رحمهما الله تعالى والشيخ أحمد عمر هاشم وغيرهم الكثير.