حكايا من القرايا.. ” كتب الطابون حكايته “
عمر عبد الرحمن نمر | فلسطين
خرج سريعاً عندما ضربت جرس بيته، تجهّم قليلاً – على غير عادته – أدركت أن الوضع لا يحتمل زيارات، تداركت تجهّمه، وقلت: أنا أتيتك لخمس دقائق فقط… فإن ضيّفتني فنجاناً من القهوة فبها ونعمت، وإلا فلا جُناح عليك… ضحك الرجل، وعاد إلى طبيعته، وأخرج من البيت كرسيّيْن، ووضعهما في حاكورة البيت، وجلسنا… نظرت إلى الشجر المغسول بالمطر، إلى الربيع الأخضر… إلى طيور انتصرت على الكورونا فاعتلت أغصان الأشجار، ورقصت وزقزقت… سأل الرجل عن حالي، وعن وضع عيالي… ولما رآني مشغولاً في الطبيعة، ومتماهياً معها، سألني: انظر، وأشار بيده إلى الأمام، انظر إلى تلك الشجرة المزهرة، ماذا ترى بجانبها؟ قلت: كومة من الحجارة… قال: هذه الكومة من الحجارة، هي بقايا طابون… وتولد في رحم هذا الطابون حكاية فلسطينية رائعة، تحمّرت على رظفه، حتى إذا انخبزت واستوت على سوقها، خرجت من قحفه تطرب الناس، وتشنّف آذانهم… وبدأ يقص: تشاركت أم إبراهيم وأم خالد في بناء هذا الطابون، وكان بشكل هرمي حتى لا يستقر عليه الماء، ويدلف في الشتاء… وتكفلت أم إبراهيم بصناعة قحفه، فهي المعلمة في صناعة القحوف… وبدأت الشريكتان تخبزان فيه… تزبّله أم إبراهيم في المساء، وتخبز فيه فجراً، وتزبّله أم خالد في الصباح لتخبز فيه مساءً، والشركة فيها بركة، حيث أخرج ذاك الطابون أكلات ساخنة وناضجة وطازجة من قحفه، كما أخرج أزرار البطاطا والجزر المشوي من ساسه… لذة للآكلين… ذات مساء ذهبت أم إبراهيم لتزويد الطابون بالزبل، ويا للهول، وجدت المُقحار قد لعب بسكنه، لكن النار في ساسه تقصقص قصقصة، كأنه لم يخبز فيه… سألت أم إبراهيم شريكتها أم خالد: تشنهن خبزاتش (خبزاتك) اليوم قلال؟ لقيت الطابون حامي (غير مستهلك) أجابت أم خالد بالنفي، وبأنها خبزت خمس طرحات فيه… وفي اليوم الثاني، لاحظت أم إبراهيم الملاحظة نفسها، الطابون مُقحَّر عنه سكنه، لكن ناره حامية كأنه لم يستعمل… كررت السؤال على الشريكة… لكن التي لا تسأل الناس إلحافا أجابت بالنفي، وأنها خبزت فيه، وطبخت دبسية زهرة مع طحينة… عليوم لو شارتشتينا (شاركتينا) الغدا أنا والحج، قالت أم خالد… صاحت أم إبراهيم: عزا… عزيين والا جنّ ازرق (مشارتشنا) بالطابون… وبساعد في التزبيل؟ صرت أشتش (أشك) إنّو طابونّا مستشون (مسكون)…) وربطت أم إبراهيم في مساء اليوم السابع خلف تلك الشجرة، وأشار صديقي بيده إليها، وترقبت لتشوف شو اللي بصير؟ أتت أم خالد تحمل لَجَن عجينها لتخبز، دخلت الطابون وقحّرت، تسللت أم إبراهيم، وشالت صينية القش التي كانت تغطي العجين… يا للهول، وفاضت عيناها بالدموع… كان اللجن خالياً من العجين، وازدادت شهقات أم إبراهيم، سمعتها أم خالد، وخرجت من الطابون، ورأت لَجَنَها قد تكشّف والسر قد فشا، وبدا الفقر بوجهه البشع، فهطلت الدموع، عانقتها أم إبراهيم… وامتزجت الدموع… شو هذا يا أم خالد؟ قالت أم خالد وكلمات تتقطع وتمتزج بالدمع: والله من أسبوع ما عنّا (تِرْويج) طحين… ولا في إشي في الدار نوكله… المسطبة مثل السقف… ركضت أم إبراهيم إلى البيت، وخرّفت (أبو إبراهيم) الخرّيفيّة من طقطق للسلام عليكم، ونقلت له الصورة، فأتى الرجل بالطحين وقسمه نصّيْن، وبالخضار نصّيْن، وبالفاكهة نصّيْن، نصّ لدار أبو خالد، ونصّ أبقاه في بيته، ومنحهم مانوحة حليب ولبن… ونقل المؤونة لدار (أبو خالد) ونزلت دموع الفرح من أسرتيْن، وهطلت دموعي، ودموع مُعزّبي… احتسيت القهوة سريعاً، ومشيت.