يا رعاك الله

طارق المأمون محمد | السودان

يا رعاك الله فيمَ تمتشِقُ يومَك هماً ..وقد أفنيتَه بين أقبيةِ الحياةِ وعرصاتِها، مضى منك بعضٌ ساغباً لم يشفِ نهْمَتَه من تفاحتِها النضِرةِ، وبعضٌ متحسراً على فوتٍ بعد لحاقٍ وضياعٍ بعد وصولٍ ، بين لذةٍ انتاشَتْها الأيامُ في خُوَيْصَتِها ، وشهوةٍ أضحى أقربُ السبيلِ إليها ذكرى تتكرعُها الأمْسياتُ بين ضحكاتِ الأصحابِ المُبكيةِ وبكاءُ الأحبابِ المضحكْ.

وما غَبَنٌ وتَوْقٌ ولا حَسَدٌ وعَوْقٌ ولكنها دورةُ الإنتاجِ العُظمَى وآلةُ التَجديدِ الكبرى، تتبادَرُ الأرضَ فَتُضْفي عليها رَوْنَقًا عِباءَتُهُ الفَناءُ ، و حياةٌ بزوالِ أحياءٍ غَدَوْا عبئًا على كاهلِها يَمْتصُّونَ ثَديَها المُمْغِلَ ورحِمُها الولودُ أحبلُ.

بذا قَضَتِ الأيامُ ما بينَ أهْلِها مَصائِبُ قَومٍ عندَ قَومٍ فَوائدُ.

وتَبتدِركَ اللحظةُ بِنَزَقِ حُبِ قديمٍ أصيلِ لم تَعملْ عليهِ يدُ الشبابِ بِوَشْيها الغَشاشِ ولا طلاوةُ خدٍّ ولا حلاوةُ قدَ ، حُبٌ هو أصلُ لكلِ حُبٍ ، لهُ جُذورُهُ المُمتدةُ في خَبيئةِ الآرضِ و دَريئةِ السماءِ،, حُبٌ له حَنينٌ نحوَ النُجومِ وعُمْرِها المُتطاوِلِ والمَجَراتِ وبُعدِها المُتهاوِلِ ، حُبٌ عميقُ الغوْرِ في النّفسِ تَستمِدُ جُذورُهُ رَيّاها مِن بدءِ الخَليقَةِ ، تَرتوي بِذاتِ الوِشَلِ الذي ارتِوتْ السماوات مِنهُ حينما كانَ لامكانَ عِندها للزمانِ و لازمانَ وقتَها للمكانِ.

حينها وقَفَ اللاشيءُ بِكَيْنُونَتِهِ العَدَمِيّةِ في ترقُبٍ عَظيمٍ ، – وذاتُ الآمِرِ سبحانه في مَجْدِها اللانِهائِي تَهِمُّ بإصْدارِ أمْرِها – وقَفَ يَنتظِرُ انبجاسَ الشيءِ من رَحِمِ كُنْ الولودِ ، تَعتريِهِ حالةُ الدُّرويشِ ِ وهو يتمايلُ مع ذكرِ شَيخِهِ المَجذُوبِ :

سُبحانكَ اللهُمْ سُبْحانَكَ اللهُمْ
وَلِدَتْ فَهلْ مِنْ أُمْ
نَطَقتْ وهل مِن نُطْقْ
قَولْ كَعَدِّ الخَلْقْ
مِنْ قَبْلِ كافِ الأمْرْ
حَتَى نِداء الصُّورْ
مُزِجَت بِخَمْرِ العِشْقْ
كَرُمَتْ بِسِرِّ الكَرْمْ
سُبحانكَ اللهُمْ سُبْحانَكَ اللهُمْ

ويصيحُ اللاشَيءُ صَيحةً عَقِلَها مَنْ سَمِعَها – وهلْ سامعٌ حينَها غَيْرُهُ وهذا المَجْذوبُ النّحيلُ الغَارِقُ في صَلوَاتِه وشَيؤهُ الذي لمْ يَتَخَلّقْ بَعْدْ – لِبُزوغِ شَيْئِهِ حاِملًا مَعَهُ للوُجودِ التوأميْنِ الزّمانَ والمَكانَ مأوِّبًا مع الدِرْويشِ مُتجاوبًا مَع شَيْخِهِ المَجْذوبِ:

سُبحانكَ اللهُمْ سُبْحانَكَ اللهُمْ
شَمسٌ بناها الغَيمْ
قَمَرٌ كَخدِّ الحُوُرْ
سَكَبا رَحيقَ النُورْ
هَتكا مَع الأقْمارْ
مِن كُل هذا الكونْ
سِرَّ الهَوَى المَستورْ
هَتفُوا بِملأِ الفَمْ
سُبْحانكَ اللهُمْ سُبْحانَكَ اللهُمْ، وتَنفَلِقُ شَرارَةُ الحُبِّ الأُوْلىَ حِينها يا رعاكَ اللهُ كما انْفَلقَتْ شَرارةُ الوُجودِ تَنْمُوانِ في تَزامُنٍ رهيبٍ وتُنجِبُ الشّرارتانِ السّماواتِ وتُنْجِبُ السّماواتُ المَجَراتِ وتُنْجِبُ المَجَراتُ الشّموسَ وتُنْجبُ الشّموسُ الأراضينَ وتنجب الأرضُ هذا الذي هو أنتَ وَأنا وَهُوَ.

فيا رَعَاكَ اللهُ هل نَما إليك أنما نَحنُ والسّماواتُ والأراضينُ أبناءُ شرارةٍ واحدةٍ خَرَجْنا من عِبّها ونَعودُ الى جُبِّها.
وتستمرُ رِحلَةُ الوُجودِ تَمْتَطِي اللافَناءَ تَستَمِرُ بِهِ الحياةُ بعَجيبِ تنقُلاِتِها يَكْلَؤُها الحِفْظُ والعِنَايَة من حَفٍيظٍ حَكِيمٍ..
ويَصِيحُ الدِرويشُ كأنّهُ وَعَى مَا سَمِعَهُ شَيْخُهُ المَجْذوبُ قَبْلَهُ… ويتمايِلُ الشيخُ المَجذوبُ طَرَبًا:

سُبحانكَ اللهُمْ سُبْحانَكَ اللهُمْ
لَمَحَتْ عُيُونُ الصُّمْ
صَوْتًا مَن الأيّامْ
يُشْجي كَما الأنْغامْ
أَيّامَ أنْ كُنّا
رُوحًا بِلا تَأطِيرْ
ذَرًا بِلا أرْحامْ
عَهْدُ السَما قَدْ عَمْ
سُبحانكَ اللهُمْ سُبْحانَكَ اللهُمْ
مَلَكَتْ نُفُوسَ القومْ
في كُلِ عَرْقٍ نَبْضْ
يَسْقي عُرُوقَ الأرْضْ
فَيْضًا مِنْ الأنْوارْ
فَارَتْ كما التّنُورْ
حتى قِيامِ العَرْضْ
ماجَتْ بِهِم كاليمْ
سُبحانكَ اللهُمْ سُبْحانَكَ اللهُمْ

وينتشي المكانُ رهْنَ وِلادَتِهِ ويرقُصُ الزّمانُ رَقْصَتَهُ الخَالِدَةَ ويَطْرَبُ العَدَمُ والوُجُودُ مرددين مع الشيخ ِساعةَ لاشَيْخَ قدْ خُلِقَ بَعْدُ : سُبحانكَ اللهُمْ سُبْحانَكَ اللهُم سُبحانكَ اللهُمْ سُبْحانَكَ اللهُمْْ….

وتَنْجلِي حَقيقةُ الحُبَّ القَديمِ حُبِّ البَقاءِ الذي نَمَا واسْبِطرَّ في النّفْسِ تَوسُّعَ هذا الكَونِ، لَهُ مِن بَارِئهِ سَبب، وتَستَجيبُ الإرَادَةُ فَلا فَناءَ ، بَلْ خُلودٌ وسَرمَدٌ تنبثق عنه جَنَةٌ ونَارٌ كَانِبثاقِ الشّرارَةِ مِنْ رَحِمِ الغِيبِ ومَعِينِ كُنْ.
حتى الموتُ ذريعَة ُالفَنَاءِ الأَبِدِيّةِ ، ينَفَضِحُ سِرُّهُ ويَبدُو هَزيلًا كعُرْجُونٍ مَعقوفِ الظّهْرِ، وهُوَ يَلعَبُ دَورَهُ المَرسُومَ في مَسرحِيّةِ الوُجُودِ – كأنّه عامِلُ في المَسْرحِ – عًليهِ إسدالُ الستائرِ بينَ المَشاهدِ فلا هُو حَتى في المَمِثلين وإنْ بَدا دَوْرُهُ أعْظمَ الأدْوارِ في مسرحيةِ البقاءِ .
ليبدأَ فَصلٌ جَديدٌ أبْطالُهُ الليلُ والنهارُ وهذا الصّلْصَالُ تَتَلَبّسَهُ الرُّوحُ… ولمّا يَخْتِمُ العَرْضُ مَشاهِدَهُ بَعْدُ.
وما زالت أصداءُ اللحْنِ السّرْمَدِيِ تَتَواثَبُ في الفَضَاءِ…

سُبحانكَ اللهُمْ … سُبْحانَكَ اللهُمْ… سُبحانكَ اللهُمْ… سُبْحانَكَ اللهُمْ…. سُبحانكَ اللهُمْ… سُبْحانَكَ اللهُمْ… سُبحانكَ… اللهُمْ سُبْحانَكَ اللهُمْ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى