صناعة رجال الدين والنخب الدينية

بقلم: عماد خالد رحمة | برلين – ألمانيا

  لم تنجُ حياتنا الإنسانية منذ صيرورتها الأولى وعبر سيرورتها الطويلة من فقه المصالح، فقد تم صناعة كل شيئ حتى النخب الدينية كانت برسم الصناعة والإنشاء التربوي والتعليمي والتأهيل والتأديب، كما تم صناعة المذاهب والطوائف المنبثقة من الأديان التي نمت وتربَّت وازدهرت ضمن المدارس السلوكية التي صنعت ذلك مع اختلاف الأساليب والطرائق، والمدد الزمنية ،والمرامي والأهداف المرجوّة من تلك الصناعة التي باتت لها مناهجها وقوانينها وشرائعها الراسخة عبر الزمن.
لقد أثبتت الأزمان أنَّ صناعة النخب الدينية قد مرَّت على جميع الأديان في العالم بشكلٍ عام ،وعلى أديان منطقتنا العربية بشكلٍ خاص لأنها مهبط الرسالات السماوية ،ومهد الحضارات الإنسانية ،وأرض الأبجدية الأولى في التاريخ الإنساني، تلك الصناعة كانت قد أنتجت أو صنعت (حبراً) يهودياً أو(قسيساً) مسيحياً أو(راهباً) بوذياً، أو (كاهناً) براهمياً أو (شيخاً) مسلماً.

     إنَّ تلك الصناعة المتجذرة في حياتنا قد احتاجت إلى تعبٍ وجهدٍ ووقتٍ طويل كي تتحقق وتتجسّد في الواقع،كذلك ينطبق هذا الجهد على صناعة فقيهاً سنياً أو شيعياً أو (شيخ طريقة) متصوفاً. فلو قرأنا تطور المجتمعات البشرية أنثروبولوجياً لوجدنا حالة البناء المستمر لتلك الصناعة التي تتعلق بفهم خاصية الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي وحتى الأدبي، ففي العقود الأخيرة التي عشناها على أقل تقدير.

    وجدنا ازدهار حالة ظهور رجالات الدين فمثلاً في الديانة اليهودية هناك درجات متفاوتة للحاخامين والنخب الدينية اليهودية، ولهم ألقاب خاصة بهم مثل:(الغاؤون) :وهو حاخام كل قراراته مقبولة عند كثير من اليهود، و(الصديق) أو (البار): وهو حاخام مختص بشؤون أخلاقية أو يعمل مفتشاً في المعاهد الدينية ( اليشيفا)، و(المرن): وهو حاخام وظيفته رئيس معهد الديانة (اليشيفا) أو رئيس مجمع يهودي كبير .و(الأدمور): وهو حاخام وزعيم مجتمع يهودي حسيدي .
أما في الديانة المسيحية فهناك رجال دين ونخب دينية لهم درجات ومراتب هي:(البابا) أو (البطريرك):وهو المسؤول الاول عن الرعايه بالكنيسه،و( المطران):هو اسقف ويكون شيخ “كبير فى السن” له اقدميه،ويكون في العاده اسقف على أبرشيه منطقه تضم عدة كنائس في محافظة أو مدينة،والأساقفة،هم أصلا رهبان متبتلون (لا يتزوجون) يتم اختيارهم كي يترسم اسقف،هو مسؤول عن عدد من الكنائس فى إقليم معين أو خدمة قطاع متخصص في الكنيسة،و(الراهب) أو (الراهبة): وهو متبتل أو متبتلة (غير متزوجين) مهمتهم التعبد، و(القساوسة)، أو (القمامصة):مهمتهم خدمة الكنيسة والمتعبدين.

   و(الشمامسة) وهم (من غير المؤمنين) يتواجدوا في الكنيسة كي تتم رسامتهم على أيدي رجال الدين برتبة شماس،وهذه العملية تضم خمس درجات هي (الإبصالتيس) و(الأغسطس) و(الإيبودياكون) و(دياكون) و(أرشيدياكون) ،ومهمتهم مساعدة الكاهن في الصلوات، ويعملون على خدمة أبناء الكنيسة .
أما في الديانة الإسلامية فقد وجدنا حالة ظهور حركات الإسلام السياسي التي أنتجت على استعجال المزيد من رجال الدين والنخب الدينية ووضعتها ضمن سلالم ومراتب وأدوار مثل: (المفتين)، و(الفقهاء)، و(المحدِّثين)، و(الخطباء)، و(الوعّاظ)، و(المرشدين) التي من مهمتهم تحقيق الكثير من الأهداف التي في معظمها يصب في منهج السلطة السياسية أو الاجتماعية أو الجماهيرية.
ونتيجةً لانتشار الحركات السياسية الإسلامية المتنوعة، نجد أن فكرة (الحزبوية) أو(الجهوية) غلبت عليها وهو ما نطلق عليه اسم (الجماعة) أو (التنظيم) على (الفقه) بكل طيفه الواسع وكل مركزيته وثقله الديني.

    ونجد كيف أنه يسيطر على الحشد الجماهيري والتجميع البشري على حساب (العلم). كما قضت (السياسة) بكامل ألوانها وأطيافها واستطالاتها على (الأخلاق) و(المصالح) الضيقة على (التقوى).

      كل ذلك جرى ضمن سلسلة طويلة من العمليات الدراماتيكية وعمليات تحوّل تاريخية طويلة لعملية صناعة تلك النخب الهادفة إلى الإسراع في خدمة أهداف ومرامي (الجماعة) لتصبح قوة فاعلة وأداة حادّة تساهم بشكلٍ مباشر في الصراعات والنزاعات بين الفرقاء، حيث يقوم بعضها بإحداث الفتن داخل المجتمع الواحد.أو المجتمعات المتعدِّدة الاتجاهات.
لقد عملت (المصالح) الفئوية والمصالح الضيقة على القضاء على (التقوى) التي سارت ضمن عمليات تحوّل تاريخي طويل، وساهمت بشكلٍ كبير ومباشر في صناعة النخب الدينية،ما زاد من الانحراف في صناعة تلك النخب، والذي سار عبر خطط ممنهجة ومنظمة من (مفاهيم) و(خطابات) رنانة تتلى بلغةٍ عربية مقعّرة، وأحياناً بلغةٍ محدّبة، ثم عبر(مدارس) و(معاهد) و(جامعات) دينية وصولاً إلى مجالس (الاستفتاء) الأعلى و(اتحادات الفقهاء) ومراكز (أرباب الشعائر الدينية) .

كل ذلك يسير وفق محورين إثنين: المحور الأوَّل: أنَّ هذا الانحراف وهذا الضياع يمكن إعادة توجيهه وترشيده وإعادة مسيرته تجاه الحق والصواب، وصناعة نخب دينية حقيقية ومميزة تخدم (الفقه) و(الإسلام) القويم دون أهدافٍ وأغراض جانبية منظورة أو غير منظورة أو كليهما معاً.
المحور الثاني: هو نزع القداسة والتبجيل والتعظيم وحالة تضخم (الأنا) عن كل هؤلاء الذين يدّعون صلتهم بالفقه والعلم والافتاء ،وإعادتهم من جديد إلى قواعدهم الحركية والحزبية (التنظيمية)،وفضح جميع المتفيقهين والمتعالمين والرويبضة بسهولة ودون طول عناء.
إن ما يجب أن يتوافر في النخب الدينية الجديدة هوعدة أقانيم أساسية هي: (الجودة) الفقهية،والشفافية و(النزاهة) الأخلاقية ،والسمو والرفعة،و(خدمة) المسلمين على أكمل وجه ،دون القيام بأي تحريف أو تأويل مغلوط ،أو أهداف ضيقة غير منظورة.

    في هذه الحالة يمكننا وصفها بــ(النخب)، وهذه الفئة محدودة جداً وعددها قليل.ويجب أن تحافظ على كينونتها، فالمسلمون ليسوا بحاجة أبداً أن يتحوّلوا جميعاً إلى (مفتين) أو (فقهاء)، بل في ذلك فقدان الحياة الحرة الكريمة، وتضييع مصالح الأفراد والشعوب، وإبعادهم عن جوهر الحياة وإشغالٌ لهم عن واقعهم ومعاشهم ودنياهم ونهضتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى