قراءة ناقدة في “بلاغة الإمام علي” رضي الله عنه
محمد أسامة | الولايات المتحدة الأمريكية
هو أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم ابن عم النبي ﷺ وربيبه ولد نحو عام600م بعد مولد النبي ﷺ بنحو ثلاثين عام وكفله رسول الله ﷺ حتى إذا كُلِّف بالرسالة كان عمر علي بن أبي طالب عشر سنين فكان أوَّل من آمن من الأطفال وكانت كفالة النبي ﷺ له وإسلامه في سن باكرة من العوامل التي أفضت إلى تغلغل الإيمان في قلبه فاتَّفقت له أسباب العلم والفقه وأصول الدين، فكان عالمًا بالفقه، آية في الورع. فضلا عن شجاعته وقوَّته.
وهو رابع الخلفاء الراشدين وأحد المبشرين بالجنة. وقد لزم علي بن أبي طالب –رضي الله عنه_ ابن عمِّه النبي الكريم ﷺ وهو في مكَّة ونام مكانه يوم الهجرة توريةً عنه ﷺ ولما هاجر المدينة تزوَّج فاطمة بنت محمد ﷺ فكان له منها الحسن والحسين وقد شهد علي جميع وقائع النبي ﷺ باستثناء غزوة تبوك لأن رسول الله ﷺ خلَّفه على المدينة وأهلها وكان حامل الراية يوم خيبر. وبعد وفاة النبي ﷺ لزم أبا بكر وعمر وعثمان –رضوان الله عليهم- حتى آلت إليه الخلافة آخر عام 35ه/655م فبايعه الصحابة وغالبية الأمَّة إلى أن توفي عام 40ه/660م بعد خلافة دامت نحو أربع سنين وتسعة أشهر.
كان رضي الله عنه خطيبًا موهوبًا مفوَّهًا, لم يعرف من بعد رسول الله ﷺ من صحابته من كان أفصح منه لسانًا، وأروع منه بيانًا، وأتم منه منطقًا، فكانت البلاغة تتدفَّق على لسانه تدفُّقًا كتدفُّقِ السيل وتنساب انسيابًا رائعًا. وكانت خطبة تنبعث منها مظاهر العلم والحكمة، وتمتاز بعاطفة قوية مندفعة وملتهبة، وهو يميل إلى الإطناب والاسترسال ومزاوجة العبارات والسجع، وتتجلَّى في خطابته موهبته في الحكمة والمنطق وسعة الخيال والقدرة على التأثير. وكل هذا كان نابعًا من تمرُّسه بأساليب القرآن من جهة وعمق ثقافته الدينية الواسعة من جهة أخرى. بسبب مرافقته للرسول ﷺ ثم الخبرة الطويلة في خدمة الإسلام بعده فضلًا عمَّا لقيه في خلافته من مصاعب وأعباء وهموم ألهبت عاطفته فجعلته مندفعًا في عاطفته تلك اندفاعًا واضحًا في خطاباته يصل أحيانًا إلى حد الانفجار.
وتتجلي في خطب علي كذلك ثقافته الواسعة وفطرته السليمة وفكره الثاقب وعمق تأمله وسلامة ذائقته ودقة إصابته للمعنى وتعدد أفكاره واتساع مداركه. وكان يكثر في خطاباته من استثارة العواطف ومن الالتفات في الجمل وكان متصرِّفًا في وجوه الكلام في سياق من البلاغة والبيان وسلامة الذوق مما يَلفت الانتباه ويجذب السامع ويملك النفس. وكل تلك العوامل أضفت على خطبه قدرًا عظيمًا من الجمال البياني والبهاء والرونق. وقد حُفطت بعض خطبه وآثاره في البيان والتبيين للجاحظ والكامل في اللغة والأدب لابن المبرد وزهر الآداب وثمر الألباب لأبي إسحاق القيرواني بالإضافة إلى تاريخ الطبري. وقد نُسب له شعرٌ جمع في ديوان صغير لكن لم تثبت صحَّة نسبته له.
وقد قام الشريف الرضي في القرن الرابع الهجري وهو من نسل الحسين بن علي بن أبي طالب وأحد أبرز أدباء وشعراء الشيعة الطالبيين في زمنه بجمع ما انتهى إليه من خطب أمير المؤمنين علي مع رسائله وأقواله ومواعظه في كتاب ضخم عرف باسم “نهج البلاغة” والكتاب ثروة بلاغية بلاشك فقد حوى خطبًا كثيرة منسوبة إلى علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- وهي تكشف عن بلاغته وموهبته وروعة بيانه وأشاد به الكثير من الأدباء الذين قرؤوه وهو مرجع مهم لمراجع الشيعة وأرباب البلاغة.
غير أن الواضح أن الكتاب على علو قدره قد دخل فيه الكثير من المنحول وصيغت على لسان علي فيها خطب وأقوال لم تصح عنه وهو ما ذهب إليه الكثير من الأدباء وعلماء أهل السنة. إذ أن أغلب خطب السابقين ذهب أغلبها بسبب صعوبة الحفظ وعدم التدوين بما فيها خطب رسول الله ﷺ فكيف جمع الشريف الرضي للإمام علي هذا العدد الكبير من الخطب. كما أن المدقِّق فيما ورد بنهج البلاغة من خطب سيلاحظ قدرًا كبيرا من السجع المصنوع صحيح أن عليا قد مال إلى السجع في خطاباته لكن ليس بهذا النمط المُفتعل الذي لم يُعرف إلا لاحقا مع أواسط العصر العباسي. فضلا عن خطب أخرى غريبة من بينها ما ورد على لسانه يسبُّ الأشعث بن قيس معيِّرًا إياه قائلا ” حائك ابن حائك ، منافق ابن كافر” وقول آخر يعرِّض بأبي بكر وعمر رضي الله عنها في أنهما اغتصبا حقَّه في الخلافة في خطبة شهيرة عرفت باسم الشقشقيِّةِ قائلًا فيها “أما والله لقد تقمَّصها فلانٌ – يعني أبا بكر- … فصبرتُ وفي العين قذى … فيا عجبًا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته – يعني عمر بن الخطاب” بالإضافة إلى رسائل أخرى اتَّهم فيها ابن عمه عبد الله بن عباس بأخذ مال من المسلمين وتعييره لهند بنت عتبة بلقب آكلة الأكباد. ومثل تلك الخطب والروايات لا تليق بأخلاق أمير المؤمنين ولا تصح عنه والأرجح أنها من كذب وعبث بعض الرواة ومن غالوا في التشيُّع فضلا عن ضعف الروايات التي تحدثت عن خلاف بينه وبين ابن عباس وواقعة تمثيل هند بنت عتبة قبل إسلامها بجسد حمزة بن عبد المطلب –رضي الله عنه – في غزوة أحد فهذا كله من عبث وانتحال الرواة. فضلا عن أن فريقًا من أئمة السنة رأوا أنه مقطوع السند فالشريف الرضي وُلد بعد علي بأكثر من ثلاثة قرون ولم يذكر لنا كيف انتهت إليه كل تلك الخطب. لذا ينبغي الحذر ومراعاة الدقة حين الاطلاع على ما نُسب لعلي في نهج البلاغة لاختلاط الصحيح فيه بالمنحول.
غير أن هذا الكتاب حتى وإن حوى بين يديه خطب منحولة فإنه بلاشك عظيم القيمة الفنية والبلاغية لأنه حوى مجموعة من الخطب ذات البيان الرائع سواء ما صح منها له أو ما كان منحولًا إذ أن جميعها امتازت بارتقاء الموهبة وحُسن السَّبك فقد صيغت بأسلوب قوي محكم لذا فهو على ما فيه يعتبر مرجعا بلاغيا هاما لكل من أراد الاستفادة من البيان والأدِب والحِكم مع التنبيه على قضية الانتحال.
ومن نماذج من خطبه ما روى أنه خطب في أول خلافته بعدما حمد الله وأثنى عليه قائلًا : “أما بعد فإنّ الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإنَّ الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطّلاع. وإنَّ المضمارَ اليوم والسباق غدًا. ألا وأنتم في أيام أمل من ورائه أجل، فمن أخلص في أيام أمله قبل حضور أجله فقد نفعه عمله، ولم يضرُّه أمله، ومن قصَّر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله، وضرَّه أمله.
ألا فاعملوا لله في الرغبة، كما تعملون له في الرهبة. ألا وإني لم أر كالجنَّة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها. ألا وإنه من لم ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لم يستقم به الهدي يجر به الضلال. ألا وإنكم قد أمرتم بالظَّعن، ودُللتم على الزاد، وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الأمل.