دروس ربانية من المدرسة الرمضانية (1)

رضا راشد | باحث بالأزهر الشريف

الصيام درع اﻷمان

يقينى دائما أن الله عز وجل ما فرض علينا عبادة إلا وأودع فيها -سبحانه وتعالى -من ذخائر المنافع ودرر الفوائد ما به تستقيم دنيانا قبل أخرانا، وأن كل عبادة إنما هى كبحر غائر مليء بالدر والياقوت، لكنه بحاجة إلى غواص ماهر ليستخرج منه ما ذخر به باطنه ..وفي هذا استنفار لعقولنا كيما تَجِدَّ في الغوص على لآلئ المعانى التى هي مطوية في أعماق العبادات .
وفي الصيام يعثر العالَم على بغيته التى ما فتئ يبحث عنها ويبتكر من اﻷساليب والوسائل ما يتوهم أنها تحققها ..وهذا البغية هي اﻷمان التى هى مطلب كل اﻷفراد بل الدول بل العالم أجمع والتى هى إحدى نعمتين امتن الله بها على قريش :《الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف 》 والتى فشلت الحضارة الغربية في أن توفرها لنفسها ،برغم ما بلغته من درج اﻻرتقاء المادى .. حتى قال قائلهم : “لقد نجحنا في أن نوفر ﻷنفسنا كل سبل الراحة والترفيه ،ولكننا عجزنا عن توفير اﻷمن ، حتى أصبحنا نعيش من قصورنا في سجن عالية أسواره ،وبرغم ما لهذه القصور بوابات ضخمة وكاميرات مراقبة فإننا لا ننام إلا والمسدسات مضاجعة لنا ” أو كما قال. لكن ما فشلت فيه الحضارة الغربية بتشريعاتها وتقنياتها قد نجح فيه الصوم ..فكيف؟!!
معلوم أن الصوم سر بين العبد وربه، فلا يطلع عليه أحد سواه سبحانه وتعالى، فلو كان امرؤ لا يتقي الله يعيش وسط قوم مؤمنين رمضان كله فإنه يمكنه أن يفطر دون أن يشعر به أحد .
وبالعكس :
تخيل رجلا في يوم شديد حره ، طويلٍ أمدُه قد تباعد طرفاه حتى ليخاصم آخره أوله فلا أمل في اقتراب أو تدانٍ ، شاقٍّ عمله ، قد كابد من مشقة العمل فيه ما كابد، ثم انتهى من عمله هذا بشق اﻷنفس ، يعود إلى بيته يجر رجليه جرا ، فد تضور جوعا واحترق جوفه عطشا ، وما إن يدلف إلى بيته حتى يرمى بنفسه على أقرب فراش لا يكاد يحرك ساكنا، يعد الدقائق بل الثوانى انتظارا وتلهفا ﻷذان المغرب. وهو على هذه الحالة يخلو عليه بيته وقد عمر المطبخ والثلاجة بأطايب الطعام والفاكهة ولذيذ الشراب ، وما بينه وبين أن يذهب لوعة جوعه ويطفئ لهيب عطشه إلا أن يمد يديه ليتناول طعاما من هنا أو شرابا باردا لذيذا من هناك ، ولن يعرف ذلك أحد؛ إذ البيت خالٍ إلا منه ، ولكنه برغم كل ذلك لا يفعل، بل يفضل أن يتصبر حتى يؤذن المغرب؛ مراقبة لله عز وجل، إذ يستشعر بأن عين الله تراه وإن غفلت عنه عيون الخلق .
يتدرب الصائم على هذه المراقبة ثلاثين مرة هى مجموع أيام الشهر الكريم ، حتى تصبح له ديدنا وعادة ، فيخرج من هذه المدرسة الرمضانية وقد صار حارسا على نفسه مراقبا لها لا تستطيع الخلوة أن تقتحم به أسوار المحظورات ﻷنه مستيقن أن الله يراه ، فيستوي سره وعلانيته ، بل يفضل سره علانيته !! ولم ﻻ؟!! ألم يدرس المراقبة في مدرسة الصيام ثلاثين مرة مشفوعة تلك الدراسة النظرية بالممارسة التطبيقية ، فلا غرو أن ينتهى الشهر الكريم فنجد ذلك الصائم وقد اتسعت عنده دائرة المراقبة لله تعالى في كل عمل يعمله .
إن المراقبة لله تعالى هي الحصن الحصين والسور اﻵمن للمجتمع من غوائل الحريمة التى تفتك بالمجتمعات فتكا والتى فشلت في منعها القوانبن البشرية ووسائل المراقبة البشرية واﻷلكترونية ؛ ﻷنها تجعل من المرء -بإيمانه بالله وخوفه منه -رقيبا على نفسه حارسا لتصرفاتها يدعها عن السوء دعا .وهذه المراقبة لاتصنع بهذه الجودة إلا في مصانع اﻹيمان ولا تدرس إلا في مدرسة الصيام. وما على النرء إلا أن يستصحب هذه المراقبة في الصيام إلى جميع حركاته وسكناته.

ترون:
لو أن كل أفراد المجتمع امتلأت قلوبهم مراقبة لله ..هل كنا سنجد جريمة ترتكب في جنح الليل ؟ بل هل كنا سنكون بحاجة إلى محاكم وقوانين وشرطة يراد منها حفظ تلك القوانين فإذا بها أول من تخرقها ليصبح حارس القوانين بحاجة هو إلى من يحرسه؟!!!
يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى