تجربة الإبداع بين الجنون والعولمة
د. الغزيوي بو علي | فاس – المغرب
تقديم
إن مقاربة النص الإبداعي لا تعد مرحلة تقف عند العتبة، وانما يتطلب الغوص في أعماقه للكشف عن تقنياته التي تعين في الوصول الى رؤيته، ولهذا فان القواعد لا تعتمد الدلالة السطحية، وإنما تتغيا الكشف عن تجديد الدلالات وتعددها، فاذا كان المناص الإبداعي النصي هو مرتبط ارتباطا بتعدد الدلالة، وتناسلها النقدي، لان قراءة الابداع الجنوني أو جنون المبدع هو إزالة المستور والمختفي، من أجل الكشف عن البنية العميقة الكامنة وراء النص، إذن كيف نستقرئ الابداع وما علاقته بالجنون وبالعولمة؟
إن الحديثة عن الجنون هو حديث عن الاعتقاد والساكن، الذي ولد مع ولادة الانسان القديم والحديث والمعاصر، فلم يعد هذا الاعتقاد سوى النظر في دعوى استلاب الذات قوتها، وعدم تحريرها جسديا، لذا فإن مجموعة من الفلاسفة والمفكرين ربطوه بمجموعة من الاختلافات الإبداعية، وتفتح على اللا معقول في تعدده وكثافته، لذا حاول المبدعون فتح هذه النافدة كلحظة التي تكون هي البداية للإبداع وكإشكالية وكنسق بين المبدع والعالم الخارجي، فقد أثبت التاريخ أن المبدع اجتماعي بطبعه، يحس ويتألم ويفرح كما الانسان العادي، لذى نرى أن هذا الاختلاف هو استراتيجية عامة لتفكيك المفاهيم الميتافيزيقية الغربية، من أجل فكر منضاف جديد، أو ما يسد هذا النقص، ويقول جاك ديريدا J.Derridaإن الاختلاف هو حركة لعوبة تنتج الاختلافات وهذا لا يعني أن الاختلاف هو سابق على كل الاختلافات الموجودة في حاضر معين، غير متحول ومتبدل، بل محايد، وهذا يعني هو الأصل المفقود هو الاختلاف المؤجل للمختلف المتعدد، أعفى دريدا مشروعية لهذا المفهوم الإبداع كسيرورات تتميز لكونه دلالة فكرية، لأن الاختلاف هو التأجيل، وخلق المساحة بين الماضي والمستقبل وهذا يعني أن الماضي سيرورة مرتبطة بالحاضر والمستقبل وذلك من الأثر الذي يترك فينا، فالأثر حسب Darrida يتوفر بدوره على الأصل ليقوم بمحو أسطورة التمركز الذاتي واللغوسي، أي أنه يصبح التأصل هو الأصل كما في الاتفاقات الأخرى، هنا تتضح لعبة الاختلافات بشكل واضح.
حيث يتبين كيف أن الأثر الماضي الذي ينفصل عن أحدات، أصبح ذا سيرورة يخلق لنفسه مسافة مرتبطة بزمن الفضاء، لان الاختلاف كما ذكرنا يعتمد على الانتقائية المتخذة عن (المقولات الكلاسيكية، كالهوية والذاتية) ومقتربا من العتبة، والتأجيل حسب ديريد Darrida والهوية المتحدة، والتاريخ المفتوح، والسؤال المقولب، لكي يبني لنفسه هوية جوانية كذات التي تختلف مع غيرها، كل هذا نجده في متون الابداع، الذي منح لهذا الفن النظمي ولكتابة الإبداعية، طاقة و حركية اختلافية وتفكيكية، وكتأخير لا وجود للفن دون التراث، ولا وجود للتراث بدون نقد، فلا نقد دون رغبة، ولا لذة. ويقول سيمون فرويد “Segmond Freud” فمبدأ اللذة يزول ولا يبقى لفسح المجال لمبدأ الواقع المعاش،… تقبل بتأجيل وتأخير اللذة لتعدد الوقائع التي تأتينا في شكل أحلام، ويستحيل الوصول الى ضرورة اللذة الماهرة التي نرغب في تأسيسها داخل ذواتنا إذن فمبدأ اللذة المثالية يستحيل تحقيقه في واقع يبقى حضوره مؤجل، يبقى كمتخيل وكمسافة غير معلنة، لكونه مرتبطا بحضور نفي الانا / المركزية كادراك وكحلول، وكمعرفة يقينية، فمنطلق النقد العربي سيد كونه، لذا يدعونا الى تكسير كل ذاتية متعالية وكذا التماثل الذي يغلف الهوية باسم “الوكالة” على الذات والتراث، ليصنع لنا علما غير العالم الذي نعيشه، عالم يكتفنه الغموض والابهام، وراح كل واحد منا يصنع العالم كما يحلو له متل البدوي الذي صنع من الثمر وعندما عظه تاب الجوع أكله، هكذا ألأظهر لنا الشاعر عبقريته ومالية فنية التي تعبر، كيف خلخلت فكرة الاختلاف، والغيرية أركان المعقولية الغربية؟ سؤال يلتمس الطريق نحو الموقف من الحداثة ومن عناوينها وسياقها التنويري لأنه كل الحداثة هي العقل والتنوير، والقوانين القسرية، وأن كل من يخترق هذه القواعد يعد مهمشا وهذا الامر يتطلب الاطلاع الواسع، والمعرفة الكلية لهذه الحداثة ورهاناتها، لقد وقف الغرب هذه طويعة ضد التيارات العقلانية وبعض المناهج كالطب النفسي وكل ضروب اليقين الزائف أو كل من يريد أن يترسخ ويتأدب حيثما يسود ويقدم ذاته كإمكانية وحيدة بها يعي الناس تاريخهم، وانطلاقا من هذا كله فالعربي في تصوراته الشخصية ومكوناته يعمل في أفق هذا الرهان من أجل ذلك فانه قد بدا لنا أن دراسة هذا إنما يهيكل القضية برمتها، ويقف عند أبعادها ولما كان الفكر هو مفتاح الحداثة والسبيل الى التحديث، فراح المفكر والباحث يبحث عن مرتكزات الحداثة ورسم مهمة التثقيف من أجل إعادة تحليل ونقد مسألة التراث، ذلك أن لكل مجتمع اكراهاته وتحولاته وتفسيراته، لان الاطار الاشكالي هو الذي يبسط ظلاله ويفتح بابه أمام كل الأيديولوجيات الارتكاسية كبداية وليست نهائية، فنشر هذا السؤال قصد الوقوف على الخيوط الواصلة بين الأخر والغرب، وبين الهامش والمركز، وبين الثابت والمتحول، لكي تصبح هذه الثنائيات هي الخصوصية والنسبية لتشكل ذواتنا برؤية مغايرة كما يؤكد ذلك بول ريكور فالحداثة هي اقصاء وابعاد للأخر، والإبداع سؤال كينوني وبنيوي.
فرغم هذا المحو، فإنها تطور لذاتها، سواء المستوى القانوني أو الأخلاقي، وفن المستقبل قصد تحويل عقلاني لظروف عقلاني، فهي تشير دوما الى التحول الى العتبة التاريخية الجديدة، بعدما عاشت صدمة التخلف والتبعية، لكن مع ظهور العقل والعلم، والعقل مع الفلاسفة كالديكارت وكانط وغيرهم، فهؤلاء عملوا على ابداع الفكر العقلاني من أجل التخلص من العصر الوسيط كما قلت، لذا عملت الحداثة تبني مفهوم العقل وقدرته على إزالة كل المتاريس الدينية والاسطورية التي قيدت الانسان الغربي، إنها رحلة لتجليات العقل في اللا عقل، والمعقول في المقول، والعقل في الجنون، فالبحث عن مكونات الجنون داخل العقل العلمي والثقافي، يدفعنا الى معرفة هذا الطقس المعقد الذي يتهم به الانسان، باعتباره مخالف لتواميس المجتمع، فيطلق عليه عدة أسماء – الصعلوك-المعتوه-الابله-الامسج-الاحمق-البهالي-الزنديق…فهذه التصنيفات تلغي التعديلات السوسيو ثقافية، والجنسانية، لترتبط بالغربة والاستلاب ولا تستقيم مع هندسة الدولة، ومشيل فوكو يرى في هذا الصدد أن الاقصاء لهذه الفئة وإدخالها الى السجون، أو الى المرستان، من أجل الإصلاح والعلاج أو الموت دون معرفة بأنهم منفيون ومدانون، فالمجنون لا يستطيع ان يؤسس ذاته، لأنه مختلف كما في كتابات أرتو، ونتشيه ونفال وغيرهم، لكن السؤال الذي يطرح كيف ينتج الجنون؟ وما علاقة الجنون بالمؤسسات؟ وما علاقته بالإبداع؟.إن تقفي هذه الأسئلة والالمام بعلاقتها المتشابكة بالإبداع وكقانون يستمد منها الانسان قوانينه وقيمته وإرادته، وهذا التشكل أصبح بمثابة الأسس الضرورية للإبداع، وادماج الحداثة الشعرية في الحياة الإنسانية، لان الابداع يستمد معناه من ذاته كحركة لرفض المألوف والقيمي، من أجل استحضار الخيال والرمز، والاسطورة والاختلاف والجنون، واستدعاء تجليات الا عقل، لان الفكر الفلسفي والادبي والثقافي ينظر الى هذا الفن كمرآة تنعكس عليها الصورة الإبداعية ليعي المبدع ذاته كإشكال لما يصبح عليه ابداعه الحداثي وقد قادنا جان يود ريال الى الوعي الحداثي الذي يضع أمامنا مشكلات متنوعة ومتشابكة.
فليست الحداثة هي اقصاء للعقلسيسيولوجيا وسياسيا وتاريخيا، بل هي الصيحة الاقصائية والصفة المميزة للحضارة الغربية التي تعاكس جميع الحضارات والثقافات السابقة، وهذا ما نراه في الحضارة العباسية، حيث نشطت الحضارة، بكل فروعها وازدهرت المكتبات والثقافة، وشيد العقل، وكثر الابداع والمبدعين، وظهرت الفرق الكلامية الفلسفية والأدبية، كجماعة أهل الصبوة الذين خالفوا العمود الشعري العربي، واتهموا بالجنون والزندقة، فهذه الصفة كما يرى أدونيس في كتابه “الثابت والمتحول” هي عبارة عن تحول في سيرورة العقل العربي وقطيعة مع المؤتلف، لزرع المختلف، كما عند النفري والحلاج وابن عربي والمتنبي والفارابي وغيرهم، وهذا الحديث مرتبط بالزمنية كما يرى أدونيس حيث أظهرت لنا أن الوعي العياني بالحداثة قد سبق ظهورها عند الغرب، مما أعاد للمبدع شاعريته وقيمته وعالميته، أي أنه أصبح هذا العصر عصر انبثاق مشروع الحداثة الإبداعية، بدأ الابداع يبحث عن ضماناته الذاتية من خلال التقليد دون إحساس بوعي المرحلة التي تتحدد بالماضي، الشيء الذي دفع الغرب بالاستفادة من السقوط المعرفي والانهيار الحضاري، ليستيقظ وليشكل وعيه وعقله ونقده، فهي إذا بمثابة الأسس الأساسية والضرورية للفكر والحداثة والممارسة الإبداعية، ويرى هابر ماس أن هيغل يرى أن أهمية العالم الحديث ترتكز في فلسفة كانط وأن عصر الانوار الذي ينعكس ويلمع في فلسفة كانط.
الا أن المبدع العربي “أدونيس” يعود للتأكيد على أن “العصر العباسي” لم يعد اليوم رمزا سعيدا للحداثة، بل صار إشارة ضوئية نعبر عنها دون أن نفهمها هي كذلك، أو لعله لم يكن قادرا على أن يستخرج مفهوم الحديث والقديم كما حدد في عصر التنوير، لان الصفة الأساسية لهذا العصر ينعكس على الابداع كمرحلة علاماتية، تحارب كل انفلات ابداعي لا يراعى فيه أساس العقل، فهذه المرحلة هي حدود للبعد الاستيطيقي والأخلاقي، واستعصاء الأجوبة الجاهزة بالمباشرة العقلية للسؤال وللموضوع، لكن هذه الهيمنة اللوكوسية سرعان ما تعرف تفككا إستيميا على يد مفكرين بنيويين وسميائيين، وتفكيكيين ولغويين، ومناطقة جدد، حيث أصبح هذا التنوع المرجعي والمنهجي بمثابة ثورة ضد اللوغوس والمنطق، و أصبح الابداعلغة المهمش والمقصي والمنبوذ، وأن المبدع هو بمثابة نبي، يحمل رسالة إنسانية لكي يعبر بها العالم، وليس تفسيره، فالإبداع هو تصور للمجتمع، وأنه نظام يخضع للمغايرة بوصفه أداة لتحرير الانسان والطبيعة من جميع السلطات، لكي يقترن الابداع في نمط تكوينه، وفنيته وجماليته بالخيال، فهو قبل كل شيء عبارة عن فضاء فيه تنتظم معارفنا وتتحدد تدخلاته لفهم طبيعة الكون، والانسان والمجتمع، فهو يقربنا من حقيقة ذواتنا، يعني أن جميع الأنماط الإبداعية يجب أن تكون مطبوعة بالجنون ومتصلة من قريب أو منبعيد بالخيال والانزياح والعدول، كما يقول جيرار جينت في (بنية اللغة الشعرية)، إذن يمكننا أن نؤكد أن الحداثة رغم تعقلها للقدرات والمهارات، فان الابداع بدورة هو قطيعة مع هذا التقليد والتخلف الذي ترفضه الحداثة، ذلك أن الإشكالية المحورية مقصورة على الغاية، والانتصار المتنامي للجنون في الابداع وبوصفها أيضا الحاصل الجوهري للمشروع الحداثي إبان فلسفة العبث والرمزية والددائية وفلسفة الا معقول…وهلم جرا، ها هنا تبتدي .جاهة الشعراء المعاصرين الذين أصبحوا يؤكدون أساسا على الحقيقة الإبداعية والمعرفية، ومن ثمة ارتباط فكرة الحداثة بفكرة الابداع كما عند أدونيس، خليل حاوي والبياتي ومحمد بنيس، فهذه الجماعة انفصلت عن الروح الكلاسيكي الرومنسي وارتبطوا بالشكل الحداثي، وأثاره على الوجدان العربي، إذ لا شك أن مجال الحداثة والجنون والابداع لا يتحدد بالتضاد، بل يترجم بالأسطورة والرمز فينتج بذلك استعمالات شعرية التي تربط الانسان بالوجود، ومتى كان الامر كذلك، فانه يتضح أن الجنون قد أسس حداثته بمحاولة تأكيد المغايرة واستحضار تجليات الا معقول لنهضة الابداع بحركية اثبات الممكن، واستعاد المحاكاة، الأن الابداع فيرتكز إذن على فكرة الجنون التي هي من شأنها إخضاع الفكر والممارسة لسلطة الرمز، والاسطورة كما ذكرت، فالإبداع هو شرط ضروري وأساسي للحداثة الشعرية والنثرية وسواء تعلق الامر بعقلنة المجتمع، أو الطبيعة أو الكون، وبهذا الانزياح كما قلت هو الوعي الإنساني وانتصار في مسار الزمان، ونقل الابداع من موقف الكون ومن ذاته الى موقف رؤيوي، لذا فالإبداع نشاط وبناء للعالم، وللذات المبدعة، ولهذا نجد أن هذا الوصف يظهر لنا كخلق واختراع، غير أن هذا الابداع لا يتأسس الا بواسطة الخيال المرتبط إما بالجنون أو بالقوة الغيبية كالشياطين كما في الشعر العربي، فهو الذي يحتضن النشاط الجمالي والفني قصد بناء وفي علاقته بتجربة الانسان وملكاته الفكرية والاجتماعية، إذا فهذا الابداع هو نسق فكري يحث عن الجمال داخل القبح، وهو أيضا تعبير عن الهرمونيا المنظمة للفكر والخيال، لأن هذا النسق لا يستقيم لا بواسطة العقل المرتبط بالحواس وقد سماها أفلاطون بالاستيتيقا، ولذلك أصبح الجنون يشغل وضعية وسيطية فهو ابداع يسكن الخيال وينير الوجود ويساهم في تنظيم العالم بالأخلاق وقوانينوعادات لا حداثية، لذا يؤكد أن المشروع هو صانع الفنان بامتياز، وتبعا لستة التطور وقانون الممارسة الإبداعية، فإننا واجدون أن التعبير الإبداعي ينطوي داخله “الجنون” قصد العبور من كائن الى الممكن ومن الثابت الى المتغير، لأن مضمونه حاصل بين المبدع والعالم والانسان وذاته، كما يقول سارتر في كتاب “الايادي القذرة” ص24. لكن هذا العبور لا يتقيد وبل يصير حرا وأمرا غير معلقا، لان العبارة لا تبقى أسيرة، بل تنفلت من المتناهي، والمعياري والمألوف لتلبس للخيال لباسا سرمديا، ويرى الجرجاني في هذا المقام “إنه قوة تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صورة المحسوسات بعد غيبوبة المادة”. وانطلاقا من هذا الطرح يبدو لنا أن الجنون والفانطازياعاملان أساسيان في ولادة الابداع، وتحريك الواقع، لكي يصبح فيه الإحساس عبارة عن صورة ومعاني مدركة من طرق القارئ، من هنا يمكن أن نرى أن هذا الجنون والخيال عبارة عن ملكة ذهنية، بها يتم التعامل مع ما فصل في الذهن من صور محسوسة مادية وحدسية، لأنه نسق يرتبط بين الوعي والواقع، ويرفض كل تجربة لا تعمل على تحريك الفعل الارادي نحو ابداع أفعال وانفعالاتومعنى، هذا كله أن الخيال يتحول تبعا لسنة التوظيف وقانون الممارسة الابتكارية، كما يقول ابن سينا، فهذا الابتكار كما قلت هو عبارة عن التفكير النقدي، أو مهارات الاستدلال، يمنح للذات المبدعة أن تنخرط في فضاء الجنون والهلوسة لتلد جنينا له الحقوق، ومبدأ الاستقلالية، وهذا ما نراه عند علماء اجتماع الادمي وخاصة عند روبير اسكاريت لأن هذا الأخير يرغب في دراسة الذات المبدعة وعلاقتها الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، وهذا الالتزام يجعل الدولة تواجه هذا الجنون وهذا الابداع بواسطة النفي أو الاقصاء أو التهميش، كمثل الخبز الحافي لمحمد شكري، وكان وأخواتها، لعبد القادر الشاوي وأولاد حارتنا لنجيب محفوظ وهلم جرا…فهذا الإنتاج الإبداعي ساهم في بناء قراءة “المرجع العربي” بلغة جديدة تستجيب لما هو عقلاني الذي يحاكم كل القراءات. ويضبط كل الوسائل النقدية لدفع القواعد الإبداعية الى فهم الوسائط والعلامات، فالمبدع في تصوراته التي تقارب موضوع الرغبة وفي الابداع، هو انخراط في الا متناهي والمختلف والجنون، حيث ينطلق من التصورات الاناوية التي مفادها أن هذا الجسد الحداثي لا يعرقل القوى العامة عند بلوغ الحقائق، وخرجات رمزية وأسطورية، وتاريخية في شكل مسارات لتلبية هذه الرغبة، داخل النسيج الإبداع النصي، لان عملية الفهم قضية خاضعة لمعطيات الزمان والمكان، ولنمو الخيرة الإنسانية وتراكمها لان العقل النقدي ليس كمعطى مطلق، بل هو محكوم بتراكمات اجتماعية وثقافية، لان الوعي النقدي هو تقويم ذاتي، وإعادة النظر في مبادئه ومناهجه ومقارباته، من أجل الكشف والاظهار والاستقراء والجنون، فاستخدام التأويل للذلالة على ذلك الحيز الفكري الذي يعنى بنظرية الفهم، سواء كان نصا شفويا أو مكتوبا، فهو تجاوز للتفسير السطحي من أجل فهم مكونات النص الإبداعي، وقد تطور على يد المفكرين والمبدعين واتخذ عدة تحريات فنية وأدبية وفلسفية، ويقول هيرو قليط الأفسي )إن الاله لا يقول إيجابا ولا يخفي بل يرمز)، فالمعنى الإبداعي الجنوني ليس معطى موضوعيا صرف، بل تجدده الكلمات بانفصال عن واقع المفسر، وعن النصوص الجامدة والصامتة، وإذا تكلمت رجعت صدى ذاتها على الدوام، فالمفسر هو الذي يحركها، لكن السؤال المطروح: ما مدى قدرة العقل على الإحاطة بالظواهر؟ أسئلة كثرة ومتنوعة جعلت العقل لا يدرك هذه الأشياء الا بالتجربة، لأن الأشياء في ذاتها تبقى خفية عليه، قد تزعزع الثقة شبه مطلقة بالعقل، لانه وطدها ديكارت وعززها التنوير، لان الخفة هي كلا لا متناهيا كما يقول شلاير ماحر (ص49)، وأكد أن الهيرمينوطيقا هي (فهم التفهم)، فالمفسر يفهم الأشياء التي لا يراها الكاتب، (شلاير ماحر ص49)، فسوء الفهم هي العقدة 1، وأن الفهم عملية لا تنتهي بل تخلق حوارا مع النص والمبدع، وهكذا مع تيماته المتخيلة والمصورة.
لذا اصبح الفهم ليس مجرد بنية معرفية بل واحدة من بنى الوجود الأساسية، وقد تطور على يد مارتن هيدجر في كتابه “الكينونة والزمن) حيث عمل على تجاوز الطرح القديم الذي يؤكد أن الفهم ينشأ من التفسير، وبينما هذا الطرح أنه منسوغ في تربة الوجود الإنساني، قبل أي عملية تفسيرية (ص15) أي لا تظهر جامدة وثابتة، بل هي متجذرة في التربة (الجسد/الوصل)، لان كل فهم يستند الى فهم مسبق كما يمكن للنص أن يقوله ص54)، أي هيالحياتية التي تجمع المفسر والنص، لذا نرى أن النموذج الأوروبي بكل فلسفاته وعلميته وتفافته، ظل يرزح تحت اليونان …بحمولتها الجنونية والاسطورية، مبرزا قوة حضوره قبل أن يتهاوى تحت ضربات ثورة العلم وحقبة ما بعد كانط، فالخيال هو ملكة تكوين الخيالات ، فهو يحاكي كل الظواهر والوقائع دون نقلها نقلا تاما، لان التأويل عملية استيطانية يحفر في أعماق النص، من أجل الإمساك بالدلالة النهائية ، فالجنون في الابداع هو عبارة عن رؤية تقوم على إمكانية التأويل والتوليد من النص، والقراءة لا تؤشر دوما الى اطلاق العنان لحرية التأويل، بل انه حرية المبدع المجنون مقيد بسقف الوجود لكي يكون لا نهائي، وهو بهذا يصبح المبدع هو سيد العالم، لأنه يؤسس عالمه غير العالم الذي نعيشه، عالم يسوده التناقض والابهام، وتسوده أيضا الدلالة اللامتناهية التي يسير فيها ويقول باللامتناهي، فالنص حسب ديريدا ألة تنتج سلسلة من الاحالات اللامتناهية، فهذا المستوى السجائلي يشكل نسقا من خلال إنتاج الدلالات ليصل إلى مضمون جديد كما يقول بارت، فالوعي الإبداعي الجنوني يتجاوز حدود الشرح والتفسير الى مستوى الفهم الذي يقوده الى التأويل الذي يمدنا بتعددية الدلالة من خلال ثنائية السؤال والجواب، فالذات قد تعرضت لمنطق الرأسمال، الذي هو منطق الهيمنة الطبقية، حيث عارض نتشيه القوى الأخلاقية والاجتماعية والدينية بقوة الفائز من أجل تأكيد الذات، وعارض فرويد كل هذا القمع باللاشعور، ولم يترك الى الشعور الذي هو موقعا للاتصالات بالحياة النفسية وبالعالم الخارجي، لهذا ابتعدنا عن هذه الذات كمبدأ وكنظام جنوني ابداعي نظرا لإخضاعها للاستهلاك، والرعاية المستحيلة وللرغبات، وعادت الذات عبارة عن البولينغ كما يقول روبيرت بوتنام ص 13. فالمجتمع الغربي بما اوتي من قوانين ومؤسسات ودساتير فرض هيمنته على الاخر الضعيف، لكي يجعل منه مجتمعا مستعدا وخاضعا له، وخالق له صراع نفسي داخلي كما يقول (هيد نكتون) صاحب (صراع الحضارات) ص93.
لكن الابداع لا عمر له، فيبقى صخرة فوق كتف المبدع ودعامة من الزمن، فلا يستصيغ أن يزيلها الا عن طريق الولادة الجديدة، التي تحمل موقفا م الوجود، والذات، والمجتمع، إذن نرى أن العملية الإبداعية ليست انعصاب أو تأزما أو صراعا نفسيا، وإنما هي فترة ارتقاء منظم لضروب من النشاط والاهتمامات المتنوعة، فالمبدع لا يتخلص من عقدة النقص الا بالإرادة والشجاعة وانتصار الأفكار، والتحرر من القيود الاجتماعية، فجان بياجي بدوره يرى أن نمو التفكير الرمزي والتجريدي قصد بناء الشخصية، فهو قادر على ابراز مؤهلاته وهويته واستقلاليته، لأن المجنون هو المبدع هو الانسان الراغب في تحقيق الذات دون الانصياع لمعايير المجتمع والسلطة والاسرة، فهو الثائر والمؤمن بالتغيير نظرا لتقريب وسائل التواصل.
فالشخصية المبدعة تنطلق من مبدأ رفع الواقع، بهدف تغييره عبر التمرد والكتابة والرسم والغناء، فهذه الصورة المتخيلة هي انطباعات عنك، وهي مبعث كل متابعيك، فهي تصدر عن ذاتها، لتقودها نحو مستثمر للفكر والإرادة والقوة، ومعنى هذا أن الفكر والعمل والإرادة هو المقصود الجوهري الذي يقوده الى الابتعاد عن الأشرار، والاهتمام بالأخيار، أي يتحول الانغلاق الى الانفتاح والتبلور في الجوهر، أي تتحول الذات الى مراتب أعلى مستقلة، ولكن السؤال كيف نتعامل مع المجنون المبدع؟ هل نحن قادرون على فهمه واستماع الى معاناته؟ هل نملك أدوات معرفية لفهم هذا المراهق المبدع المعولم؟ إن الذات لا تستقر إلا بعد التلاؤم والتفوق والاستقلال الذاتي بعيدة عن الكتل البشرية، لكي ينتج عن هذا الصراع إظهار مشاعر البعض والحسد، ويقول عاطف عمارة “إن هذه المشاعر أن تدفع بالغير الى أن يضعوا أنفسهم في موضوع المقارنة مع الشخصية المستقلة المتميزة بهدف إدراك أسباب تميزها وتفردها وتفوقها”، ويرى عاطف عمارة أن السرد الأعظم من هذا القطيع يظل مرتبطا بالعقائد الثابتة التي صاغها وبناها المجتمع الإنساني، وعندما يتمرد الفرد ضد القطيع فإنه يندمج في حرب وعداء باسم المجتمع الذي أسسه، لأنه يحمل فكر مغايرا وتفردا متميزا من أجل مكاسب وجودية، وإكمال دورة تحررية شاملة، ونعد هذه الشخصية الهرمسية المتمردة حسب القطيع هي شخصية مدمرة ويقول عاطف عمارة أيضا إن لكل نضال من رؤية تستكشف بها الشخصية الإنسانية حقيقتها وامكاناتها، وتتعرف على موقعها من ذاتها وموقفها من العالم، فهذه الأخيرة هي التي تقدم معتقدات قوية تجعله يميل الى التنفيذ العملي للأفكار وانخراط في العمليات التواصلية والاجتماعية، ذلك الواقع المفترض الذي يقوم بتدريسه في شكل أدوار قيادية وتطورية سياسية واجتماعية، إلا أن جنون المبدع مندفع دون تفكير ولا وعي تأملي ذاتي، بل همه هو إشباع رغباته، وإيجاد اللذة دون حساب العواقب، ولا شعور بالذنب، لهذا لا يخضع تصرفاته للضبط الذاتي الداخلي، وتصرفاته بهذا المعنى لا تفكير فيها ولا إحساس بما فيها من تخريب أو تدمير للأخرين، فالمجنون كما ذكرت هو عبارة عن تطهير لهذه الذات من عملية العنف، لذا كانت الطبقة الحاكمة لا تريد إلا أهلالسواد الخيرة، وأهل العقول الفطنة، أما هذا المجنون فمحكوم عليه إما النفي خارج الواقع، أو يموت، أو يوضع في السجن، أو يحمل الى المستشفى لكي يضع لي نفسه نهاية، هكذا عمل فوكو في كتابه “تاريخ الجنون” باستخلاص مجموعة من المفاهيم، منها على الخصوص: السجن والسلطة والعيادة والطبيب، فهذا الثالوث هو المتحكم في بناء المجتمع السوي، وقد ضلت هي الميمن في تاريخ البشرية، إلا أن عصر الأنوار، بدأت المفاهيم تعرف نحو من الاهتزاز نظرا لسلطة الفكر والعقل، وبدأت المراجعة والتقييم لهذه المفاهيم، فأصبح المبدع يتعامل مع ذاته ليس كمختبر، وإنما كإحساس وشعور، وعاطفة وفكر، جاعلا منها ولادة جديدة تخاطب العالم الخارجي لتتخذ منه موقفا أو تحاربه وتقاومه، لكن الإبداع أصبح اليوم خاضعا لقاموس العولمة، فهي هي ترجمة للمصطلح الإنجليزي Globalisation والبعض يترجمها بالكونية وبعضهم يترجمها بالكوكبة وبعضهم بالشوملة إلا في الأونة الأخيرة اشتهر بين الباحثين مصطلح العولمة أصبح هو أكثر الترجمات شيوعيا بين أهل السياسة والاقتصاد والاعلام وتحليل الكلمة بالمعنى اللغوي يعني تعميم الشيء وإكسابه للصبغة العالمية وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله عبد الصبور شاهين عضو مجمع اللغة العربية ، و العولمة هي مصدرا فقد جاءت توليدا من كلمة عالم ونفترض لها فعلا هو عولم يعولم عولمة بطريقة التوليد القياسي، وأما صيغة الفعللة التي تأتي منها العولمة لأنها تستعمل للتعبير عن مفهوم الأحدث و الإضافة، وهي مماثلة في هذه الوظيفة لصيغة التفعيل وكثرة الأقوال حول تعريف مفهوم العولمة، لذا لا نجد تعريفا جامعا معنا يحتوي جميع التعريفات، ذلك لغموض مفهوم العولمة والاختلافات ووجهة الباحثين الاقتصاديين والسياسيين والاجتماعين، هكذا يمكن تقسيم هذه التعريفات إلى ثلاثة أنواع:
ظاهرة اقتصادية وهيمنة أمريكية وثورة تكنولوجية واجتماعية:
وهي تبنى بتجارب أهلها ومعاناتهم وانتصاراتهم وتطلعاتهم وأيضا باحتكاكهم سلبا وايجابا مه الهوايات الثقافية الأخرى التي تدخل معها في تغاير من نوعها، وعلى العموم تتحرك الهوية الثقافية على ثلاثة دوائر متداخلة ذا تمركز واحد فالرد داخل الجماعة الواحدة قليلة كانت أو طائفة أو جماعة مدنية حزبا أو نقابة. هو عبارة عن هوية متميزة ومستقلة، عبارة عن أنا لها أخر داخل الجماعة نفسها، “أنا” تضع نفسها في الدائرة عندما تكون في مواجهة من هذا النوع من “الأخر”. والجماعة داخل الأمة هي كالأفراد داخل الجماعة لكل منها ما يميزها داخل الهوية الثقافية المشتركة ولكل “أنا” خاصية بها “وأخر” من خلاله وعبره تتعرف على نفسها بوصفها ليست إياه. والشيء نفسه يقال بالنسبة للأمة الواحدة إزاء الأمم الأخرى، غير أنها أكثر تجريدا واوسع نطاقا وأكثر قابلية للتعدد والتنوع والاختلاف. هناك إذن ثلاثة مستويات في الهوية الثقافية لشعب من الشعوب: الهوية الفردية والهوية الجمعوية والهوية الوطنية، والعلاقة بين هذه المستويات ليست قارة ولا ثابتة بل هي مد وجزر، دائما يتغير مدى كل منهما اتساعا وضيقا حسب الظروف وأنواع الصراع والاصراع والتضامن والإضمان التي تحوكها المصالح: المصالح الفردية المصالح الجمعوية المصالح القومية. وبعبارة أخرى إن العلاقة بين هذه المستويات الثلاثة تتحدد أساسا بتنوع الأخر بموقعه وطموحاته، فإن كان داخليا ويقع في دائرة الجماعة فالهوية الفردية هي التي تعارض نفسها ك “انا” وإن كان يقع في دائرة الأمة فالهوية الجمعوية القلية الطائفية، هي التي تحل محل “الأنا” الفردي إما إن كان الأخر خارجي أي يقع خارج الأمة فإن الهوية الوطنية هي التي تملأ مجال “الأنا”.
الهوية الثقافية والعولمة والعلاقة بينهما:
الهوية: هي الأرض والوطن الذي يضمنا جميعا والهوية كما يعرفها العديد من الباحثين هي مجموعة من الملامح الثقافية الأساسية الثابتة وأيضا هو التنافس بين الهوية والعقل بنبذ التطرف والتعصب العرقي بجميع أشكاله.
الثقافة: هي ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية تشكل أمة هويتها الحضارة في إطار ما تعرفه من تطورات.
الهوية الثقافية: هي نظام من القيم والثمثلات التي يتميز بها مجتمع ما تبعا لخصوصياته التاريخية والحضارية وكل شعب من الشعوب ينتمي الى ثقافة مميزة عن غيرها وهي تعبير عن الحاجة الى الاعتراف والقبول والتقدير للإنسان.
العولمة: وهي انطباع عام للأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع أقوامها وكل من يعيش فيها وتوحيد لجميع أنشطتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية مع الأخذ بعين اختلاف الأديان.
أهداف العولمة:
أهداف إيجابية:
- التركيز على قيم حضارية معينة مثل احترام كرامة الانسان وأدميته وحقه في حرية الكلام والمشاركة في اتخاد القرارات وحقه في مساءلة الحكم والأطراف الحاكمة والحق في التعليم والعيش الكريم.
- التركيز على احترام الاختلاف بين الحضارات واحترام رأي الأخر وتأييد حقوق المرأة واعتبار حقوق الطفل.
- قيام شبكات الاتصال بين مختلف المعاهد والمراكز والجماعات في العالم.
- إعطاء الحرية الكاملة لذوي الابتكار والخلق والابداع والتحسين والتطوير والتنمية والانتماء لتفاعل مواهبها وملكاتها بشكل كامل ومتكامل.
- تزايد أعداد العلماء وأعضاء هيئة التدريس والطلبة والباحثين.
أهداف سلبية:
- إلغاء النسيج الحضاري والاجتماعي للشعوب.
- تدمير الهويات القومية والثقافية للشعوب.
- تعميق التناقض بين المجموعات البشرية بقدر قدرة هذه المجتمعات على بلورة استراتيجية فعالة للصراع على المصالح.
أهداف العولمة الثقافية:
- إعداد بحوث حول أثار صراع الأجيال المعاصر في ضوء ثقافة المجتمع.
- رصد التغيرات المتعلقة بأنماط الهوية والثقافة.
- الكشف عن مصادر المعلومات التاريخية والجغرافية عبر الوثائق والاستكشافات.
- حصر الجهود التي تغني بثقافة المجتمع العربي.
الخصائص المميزة للعولمة:
في هذا الإطار يمكن استحضار خلاصات منظري السيار في شأن تحليل الخصائص التي تطبع ظاهرة العولمة، فقد أفرد منظوري السيار العولمة تتميز ب 5 خصائص حسب فال عبد الجبار كنموذج لهذا التيار بخصائص بنيوية جديدة على الأصعدة الاقتصادية والسياسية والتنظيمية والاجتماعية والتفافية، الخاصية الأولى: المعولم أنه يقع خارج نطاق تحكم الدولة القومية وتسنيد بقيادته الشركات المتعددة الجنسية فوق القومية التي تفرض هيمنتها ليس فقط في المجال الاقتصادي فحسب بل تجاوز ذلك الى المجالات الأخرى كما سنبين ذلك لاحقا. أما الخاصية الثانية: أي لوجه السياسي في العولمة فتتحدد في تزايد السطوة الإدارية للنخب التكنوقراطية على حساب النخب السياسي التي لم يعد بوسعها التحكم في الاقتصاد المعلوم وهنا الوضع يطرح على بساط البحث قيمة ومعنى الانتخاب والتغيير في إطار النظام السياسي الحقوقي الحالي فضل وظيفة النخب السياسي في هذا الوضع شرعنة أهداف ومخططات النخب التكنوقراطية الدولية إذا كان الجواب نعم فإننا نتساءل عن مظاهر السيادة والوطنية التي انفلتت قيادتها الى اليد الامبراطوريات الاقتصادية الشركات المتعددة الجنسية.
وتتميز الخاصية الثالثة: للعولمة أي الجانب الثقافي بالفرض القسري للثقافة الاستهلاكية الغربية على العالم بفضل حركة السوق أو بفعل تورة المعلوميات الاتصال ويترتب عن هذا الهجوم الثقافي نزعات احتجاجية اتخذت منحى نكوصي لأنها تفتقد لبرنامج واضع أو تجهد للتفليق بين تحديات الحاضر والنماذج الماضولية المحكومة بشروطها التاريخية والحضارية والجغرافية التي أفرزها.
جوانب تأثير العولمة على ثقافات المجتمعات الأخرى.
عملت شبكة الأنترنيت على ازالت الحدود الثقافية عبر مختلف دول العالم عن طريق اتاحة انصال أسهل وسريع في أي مكان عن طريق مختلف، أجهزة الاعلام والوسائل الرقمية وترتبط شبكة الأنترنيت بالعولمة الثقافية لأنها تتيح التفاعل والتواصل بين الأفراد من مختلف الثقافات وأساليب الحياة كذلك تسمح مواقع الويب التي يشارك فيها الأفراد صورهم بمزيد من التفاعل حتى ولو كانت اللغة تشكل عائقا أمامهم. فقد أصبح من الممكن بالنسبة لأي شخص في أمريكا أن يتناول النودلز اليابانية على الغداء. فقد أصبح من الممكن بالنسبة للقاطنين مدينة سيدني في أستراليا أن يتناول الطعام الأكثر شعبية في إيطاليا ألا وهو كرات اللحم ومن تم فقد أصبح الطعام يشكل مظهرا من مظاهر الثقافة المتعددة والمتأصلة بأي دولة، فالهند على سبيل المثال شتهو بالكاري والتوابل الغربية، اما باريس فتشتهر بمختلف أنواع الجبن، في حين تشتهر الولايات المتحدة الأمريكية بالبرجر والبطاطس المحمرة، قديما كان الطعام المقدم في مطاعم ماكدونالدز هو الطعام المفضل لذا الأمريكيين.
ومهما يكن من أمر فالإبداع مرتبط دوما بعوامل داخلية وخارجية، فهذه العوامل إما تكون عبارة عن فضيلة أو موهبة أو بركة، أو أن تكون عبارة عن تحولات سيكو سوسيولوجية، أو ذاكراتية أو طفولية نسميها بالجنون أو المس الداخلي أو الخارجي، فهذه الرؤية تجعلنا نرى المبدع مجنون بالعظمة، أو بالتجربة أو بالشعر أو بالأفلام، ولكن هذه الخاصية لا يتميز بها إلا الواسع في اللحظة أو الخيال أو الاشراق كما تقول المتصوفة، في هذه اللحظة تكون الذات في تلاقح مع ذوات والعوالم الأخرى، فيكون الفيض كما يقول الفارابي أي الذات تفيض عنها العوالم الأخرى كأنجم فيصير المبدع غارقا في وحل الخيال لا ينفك الا بعد الافراغ أو اخراج المسكوت عنه، وهذا كله عبارة عن توهمات فالإبداع لا يكون غلا بالمعرفة والقراءة الدائمة، وبالمراس والذرية، فلا يمكن أن نخلق من العادة عبادة، فالإبداع هو المعرفة وليس الجهل.
خلاصة:
فهدف العولمة الثقافية ليس هو خلق ثقافة عالمية واحدة بل هو خلق عالم بلا حدود ثقافية لكن من الملاحظ أن الثقافات الوطنية أصبحت تنصهر في ثقافة العولمة بهدف ترسيخ نمط ثقافي معولم.
إذن نقول هل كل مبدع مجنون؟ وهل كل فيلسوف وعالم مجنون؟ إنها أسئلة كثيرة من الراسخ في الإبداع، بل من حكماء الجهل الذين لا يستطيعون أن يفهموا ما يقال، لذا فلغتهم الوحيدة هي خلق أساطير الجهل، كالمعتوه والأحمق والأسمج والصعلوك والأبله، ولكن متى سيسطع نور الفكر ويموت الجهل.
فالإبداع شبكة أشمل من ما هو جمالي وأدبي، وبين ما هو أيديولوجي ومعرفي ورؤيوي لأنه يستوعب الكائن والممكن، والوجود واللاوجود، والذات والحلم، وكل الأليات الداخلية والخارجية، إنه بنار رؤيوي لا تاريخي، واختراق قشرة العالم لمنح الوجود الإنساني في طبيعته العميقة، لتمنح للمجنون المبدع بهجة الولادة ولا مأساة الموت.