يوميات من كورنيش الاسكندرية (٣)

محمود عبد المقصود | نائب رئيس تحرير الأهرام

 

حكايتى مع المحافظ

رؤية الإعلامى للمسئول تكون غالبا مرهونة بعدة اعتبارات شخصية ونفسية وكيمياء العلاقات الإنسانية.. فإذا انتفض المسئول لمقابلة الإعلامى وابتسم في وجهه وشد على يده وربت على كتفه واحتسى قهوته معه .. ومنع المكالمات أثناء زيارته .. وقال له (حط نفسك مكانى) (وأنتم عيون السلطة)..وووو ثم صافحه على باب مكتبه وأمر الأمن بتوصيله كان هذا المسئول هو المحبوب والمعبود والمطلوب والمقصود .. وإذا قصر فله عند الإعلامى مبرراته .. وإذا تقاعس فله ظروفه ..وإذا أفسد قال عنه إنه المصلح وأنتم لا تعلمون !!
وأذكر أنه فى العام الأول من تسعينيات القرن الماضى طلبت مقابلة محافظ الإسكندرية لسماع رأيه فى تحقيق صحفى حول ترعة المحمودية ..وكان معروفا عن الرجل (رحمة الله عليه) أنه حاد الطباع.. يعتز بشخصه .. يفتخر بتاريخه .. يزهو بانتمائه .. جريئ فى تصرفاته .. رصين فى كلماته .. لا يخشى فى الحق لومة لائم.. وقد أعطى له ذلك هيبة ووقارا استحسنها المحترمون ولفظها لصوص الوطن وسارقو عرق المهمشين .. ولذلك كنت ممنونا جدا عندما قابلنى الرجل بحفاوة أثارت بداخلى قليلا من الدهشه والتوجس..
وأذكر أنه أثناء المقابلة رفع المؤذن نداء صلاة الظهر فدعانى لأصلى معه ثم اصطحبنى لجناح فى مكتبه وضع فيه ماكيت تطوير الترعة وراح يسترسل معى فى رومانسية طموحاته الوطنية فى إعادة الرونق الحضارى لعروس البحر المتوسط وسلمنى أوراق دراسة المشروع وبعد نحو الساعتين .. غادرت مكتبه وسط اصطفاف من الموظفين الذين خرجوا يرمقون من هذا الصحفى الشاب الذى انتزع اهتمام واحترام محافظهم الصارم !!
وبعد كتابتى للموضوع فؤجئت أن جريدتى (الأهرام ) تفرد لى الصفحة الثالثة كامله وكان الموضوع محل اهتمام على الجانب الشعبى والرسمى ..
ومرت أيام قليلة بعدها وبينما كنت أترجل كعادتى على كورنيش الإسكندرية فوجئت بأكوام من القمامة والمخلفات تعبث من خلفها ومن تحتها فئران عتيقة وحشرات غريبة تمرح فى حرم الكورنيش بين مياه البحر والسور الخارجى فذهبت استدعى زميلى مصور الأهرام وقام بتصوير اللقطات وأفاض الله على بالكلمات وأرسلت الموضوع للجريدة وفى السابعة صبيحة اليوم التالى أيقظونى ليخبرونى أن الجورنال عايز يكلمنى وإذا بمديرة المكتب رحمة الله عليها تقول لى تعالى يا محمود بسرعة المحافظ كلمنى دلوقتى وطالعة زرابينه وزعلان قوى علشان موضوع الكورتيش وبيعتب عليك وبيقولى ليه محمود مقاليش ده كان لسه عندى ليه يعمل كده ؟
قلت لها: وهو عرف منين يا أستاذه
قالت : انت منور يا اخويا النهاردة في الصفحة الثالثه قوم وتعالى بسرعة علشان نعرفوا حنعملوا إيه
.. وقبل ذهابى للمكتب ذهبت مره أخرى للمكان فوجدت رئيس الحى وأوناش وسيارات قمامة والدنيا مقلوبة يقومون بتطهير الكورنيش من هذه البقعة السوداء فى ثوبه
الأمر الذى أدخل على قلبى سعادة غامره وشعور بالإنجاز وأيضا استلهمت منه منطق حوارى مع المحافظ .. ومن الجورنال تكلمنا معه هاتفيا .. وكنت قد أعددت نفسى للرد عليه حال تربصه بى ..وأمسكت سماعة التليفون وإذا به يقول لي بعتاب شديد الود : عملت كده ليه يا محمود كنت قولى الأول وشوفنى حعمل ايه .. ليه تعطى فرصة لشوية حسالة يتربصوا بجهودى
فى تلك اللحظات غلبنى طابع الحياء الذى يسكننى فضاعت عندى الكلمات وسقط بداخلى المنطق ووجدتنى عاجزا عن الرد عليه وتذكرت حفاوته بلقائى واحترامه لشخصى فأعطيت سماعة التليفون لمديرة المكتب لتستكمل الحوار معه.. وسألت نفسى بعدها هل بالفعل أنا أخطات عندما نشرت قبل إخطاره ؟
وهنا اكتشفت وتأكد لى أن هذا ليس دورى ولا وظيفتى وإنما هو دور ملاحظي الأحياء وأننى لم أخطيء بل مارست وظيفتى الرقابية التى يسألنى عنها الله يوم ألقاه .. وقررت يومها أن اضع سياجا وحاجزا وهمىا بينى وبين أى مسئول مهما كان قدره حتى أحافظ دوما على حرية ومصداقية كلماتى ! وسددت برضا وقناعة وما زلت أسدد لهذا المبدأ فواتيره حتى الآن !!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى