وردة قرنفل حمراء .. قصة قصيرة
رزق البرمبالي | قاص من مصر
يقف أمامها حزينا، يسيل الدمع من عينيه، مُراً كمرارة حلقه، شارد الذهن والصدمة ما زالت تسري في أوصاله، القلب الذي كان يخشى عليه من فرط السعادة، هاهيَّ الآن غيمات داكنة تغلفه، فتجعل من نبضه سهاما حارقة تملأ صدره.
بعد أن يلملم شتات نفسه ويلتقط أنفاسه، يضع باقة الورد بعناية فوق القبر، والذي يحرص دائماً على جلبها معه، عصر كل جمعة، موعد الزيارة المعتاد، الذي لم يتخلف عنه يوما واحدا، يحكي لها عن آلام الفراق وعذابات الوحدة، ويبثها لواعجه وأشواقه، ويجدد العهد بعدم الزواج مرة ثانية، والبقاء وفيا لها مادامت أنفاسه تتردد بين جنباته، يرفع يديه للأعلى دامع العينين، يتمتم بآيات الدعاء والرجاء من رب العباد أن يرحمها رحمة تنجيها من كل كرب، وأن يجمعه بها في مستقر رحمته،
الشمس ترفع الراية البيضاء، وتطلق صافرة الإنذار الأخير، ثم تجمع خيوطها المتناثرة استعدادا للرحيل. حان موعد الإياب، وذكريات العامين الماضيين تتراءى له بكل ما فيها من حب وسعادة وشوق متجدد على الدوام، لم يكونا عامين بل شهرين من عسل مصفى، كان من فرط السعادة يخشى على قلبه الفَتِي من التوقف، فإذا قلبها هيَّ الذي يتوقف فجأة ، فتأفل شَمسُه و قَمرُه في آن، وتتحول الأفراح إلى أتراح، والأحلام إلى سراب، والدنيا إلى جحيم، يعض على أنامله من الندم، للعهد الذي كان بينهما، بتأجيل الإنجاب لمدة عامين، ” لو كان لديّ الآن منها طفلة تضئ حياتي بوجهها البيضاوي المبهج كالبدر، وروحها النَدِية، بالتأكيد كانت ستأتي نسخة من أمها، يتحدث ونفسه، وتمطر غيمات عينيه من جديد،
في الآونة الآخيرة، لاحظ وجود شابة موشحه بالسواد، وبيدها زهرة قرنفل جافة ومغلفة، تقف أمام القبر المقابل لقبر زوجته، تأتي في نفس الموعد، تبكي بكاءا حارا، وتتحدث هامسه، كأنها تكلم شخص ما ماثل أمامها، قال في نفسه: لَعلهُ أبوها!
ذات مرة سمعها تعاتبه قائلة: كيف تطلب مني الزواج يا سامر؟!.. أنت لا تعلم أن ذكريات العام الوحيد الذي قضيناه سوياً في عشنا الجميل، تكفيني العمر كله، عفوا ياسامر لا تطلب مني ذلك مرة آخرى، لأن قلبي أغلق على حبك ولن يفتح لغيرك أبدا،
هز رأسه هامسا لنفسه: إنها أرملة وفيه لزوجها حقاً!!
بمرور الأيام، لايدري لِما أخذَ أمر هذه الشابة حيزا كبيرا من مساحة تفكيره، ربما لتقارب السن، أو لتشابه الأقدار بينهما، أم لعينيها الزرقاوين وأهدابها السوداء الطويلة! لايدري لماذا يجافيه النوم ويتقلب على الفراش إلى ساعة متأخرة من الليل؟!، وصورتها تتحرك أمام عينيه في كل وقت،
يتعجل الخطى إلى المقابر، مدفوعاً بلهفة وشوق لرؤياها وسط نبضات قلبه المتدفقة! أصبح يقف بجسده أمام قبر زوجته، فيما روحه وقلبه يحلقان حول تلك الأرملة الشابه! كان يسقي أصص الصبار والريحان والورد الجوري، والتقت عيناهما لأول مرة، رماها بابتسامة، أدارت وجهها لتداري ابتسامه ارتسمت على شفتيها رغما عنها، أحس بفرحه تقرصه في قلبه،
بعدما فرغ من صلاة العصر، عرج إلى محل الورد، ناوله البائع باقته الأسبوعية المتفق عليها، لكنه في هذه المرى طلب منه ورده قرنفل حمراء إضافية،
عندما اقترب من المقابر أسقط في يده ومادت الدنيا تحت قدميه، ودق قلبه بحزن، فبرغم تأخره عن الموعد، لم تكن موجودة، فتعلق قلبه قبل عيناه بالمدخل، كان الوقت يمر ثقيلا فيما صدره ينقبض فيطبق على أنفاسه المتلاحقة،
“ماهذا الذي يحدث، هل جئت لزيارة زوجتي أم لرؤية الحبيبة؟! حبيبة..هل أحببتها حقا؟!، كيف يحدث هذا أمام مرأى ومسمع زوجتي وساكني القبور جميعا؟!
أسئلة تدور في رأسه ويتعجب لها!
فجأة طار قلبه فرحا داخل صدره، وغطت السعادة وجهه، فقد وصلت الحبيبة وحدجته بنظرة حانية، اقترب منها مبتسما وأهداها الوردة الحمراء، أطرقت رأسها، ثم مدت يدها وتناولتها في خجل، وأعطته القديمة، وضعها فوق القبر، قائلاً: الورد الجديد ينبض بالحياة.