عن الفلسطيني و هتلر!
حسام عبد الكريم | كاتب و باحث – الأردن
يتمتعُ الزعيمُ الالماني أدولف هتلر بشعبيةٍ لا بأس بها على المستوى الشعبي بين صفوف الفلسطينيين (بل والعرب الآخرين). وهذه الشعبية هي من الأمور الواقعية التي نعرفها كلنا ونشعر بها، رغم أنها ليست مُعلنة ولا رسمية.
ويمكن تفهم الأسباب التي تدفع الكثير من الفلسطينيين إلى التعاطف مع هتلر؛ بل والإعجاب به ومدحه. فهتلر كان عدو اليهود الأول في العالم، قتلهم وشردهم ونكَّل بهم في كل مكان وصلته جيوشه وبلا رحمة. وبما أن الشعب الفلسطيني اليوم يتعرض إلى ظلم وقهر وعدوان اليهود الصهاينة، فمن الطبيعي أن يكون الرجل الذي حاربهم وقضى على أعدادٍ كبيرة منهم محل إعجاب وتقدير لدى الذين يذوقون الويلات على أيدي أبناء وأحفاد هؤلاء اليهود الذين نجوا من مذابح هتلر. هذا الشعور إذن مبرر ويمكن إدراك أصله ومنبعه.
ومحبة هتلر تنتشر وتستفحل في بعض الأوساط الفلسطينية، وخاصة المخيمات (وأحدُ وجهاء مخيم البقعة في الأردن كان اسمه “أبو هتلر” ) التي تراه بطلاً عظيماً وفارساً مغواراً لم يهبْ اليهودَ وسطوتهم فأراد أن يخلص العالم من شرورهم! ولكنهم تآمروا عليه وألّبوا العالم ضده حتى خسر الحرب الكبرى في النهاية، وللأسف ! ويجنحُ الخيالُ الشعبيّ الفلسطيني إلى تصوّر عالمٍ انتصر به هتلر على أعدائه، وكيف ستكون فلسطين عندئذٍ حرة غير محتلة لأن اليهود قد تكفل بهم هتلر وأبادهم!
بل إن البعض قد ذهب به الشطط إلى حد اللجوء إلى “اختراع” معلومات وتلفيق أخبار ودبلجة صور بهدف اقناعنا أن هتلر هو هتلرنا! فهو مِنا وفينا! وكونه ألمانياً لا يناقض ذلك. نعم هناك منا مَن لا يريد أن “يفرط” بهتلر فيحاول أن يجد الطرق لنسبته إلينا، نحن العرب والمسلمين. ومَن يبحث على الإنترنت سيجد الكثير من الموضوعات والبوستات والإيميلات التي فيها كلامٌ كثير وشرحٌ وصور عن الحرب العالمية الثانية كلها تحاول أن تدعي وتثبت أن أدولف هتلر كان مسلماً!! وتتحدث تلك المنشورات عن قيام هتلر بتوزيع نسخ من القرآن الكريم على جنود الجيش الألماني، وتعرض صوراً لجنود هتلر وهم يؤدون صلاة المسلمين جماعة! وغير ذلك الكثير من التلفيقات السخيفة.
ورغم أن تلك الموضوعات لا تستحق بذل أي جهدٍ لدحضها وتفنيدها نظراً لتفاهة محتواها وسهولة كشف كذب مضمونها ولأنها لا ترتقي إلى الحد الأدنى من الموضوعية، إلاّ أنها تؤشر إلى وجود تيار من بين صفوفنا – نحن العرب والمسلمين – يريد أن يؤسس رابطة ما بين قضيتنا الفلسطينية العادلة وبين الزعيم النازي الألماني.
وهذا التوجه خاطئ تماماً، وينبغي وقفه فوراً . فالشعب الفلسطيني قضيته عادلة وإنسانية، قضية وطن وشعبٍ تعرض لعدوان إجرامي ولظلم شديد من قبل حركة عنصرية دموية. ولذلك كله لا يجوز لنا أن ننجرّ إلى تمجيد عتاة العنصرية وكبار المجرمين عبر التاريخ حتى لو ارتكبوا جرائم ضد اليهود أو حاربوا أمريكا .
والحقيقة المؤكدة أن هتلر كان عنصرياً، يمجّد العرق الألماني (الآري) ويحتقر غيره من الأعراق، ومنها العرب والغجر والأفارقة والترك والروس، واليهود طبعاً. وهو لم يكن مسلماً، ولا بأي شكل، ولم يحب المسلمين يوماً.
فهتلر إذن ليس هو العنوان المناسب لكي نوجه له سهامَ حبنا. وأتباعُه اليوم في أوروبا – وحمداً لله أنهم أقلية – خير دليل على ما نقول. فهؤلاء “النازيون الجدد” كما يطلق عليهم لا همّ لهم ولا شغل سوى الاعتداء على الأفارقة السود والآسيويين والعرب واللاتينيين الذين ضاقت عليهم الدنيا فلجأوا إلى رحابة أوروبا وحضارتها ليجدوا هناك مجموعات اليمين المتطرف تسعى ولو بالعنف والترهيب لطردهم من أجل “تنقية” أوروبا البيضاء من “الشوائب”، كما حاول زعيمهم التاريخي وقدوتهم هتلر أن يفعل قبل 70 عاماً ! وأحدُ هؤلاء العنصريين قام بقتل فتاةٍ عربية في قاعة المحكمة في ألمانيا وأمام أعين القاضي لأنها كانت ترتدي الحجاب، في القصة التي ذاعت قبل بضعة سنوات.
وقد تحول هتلر إلى رمز للشر والإجرام في أوروبا التي نبذته وتنصلت منه ومن تراثه وكل ما دعى إليه. ولذلك فالإعجاب بهتلر يثير الاستنكار والاستهجان لدى الأوروبيين؛ بل والعجب إذا كان هذا الإعجابُ صادراً من قبل أناسٍ – مثلنا- لا يكنّ لهم هتلر وأتباعُه سوى الاحتقار! والشعب الفلسطيني لا ينقصه الأعداء، ولا مصلحة لنا في استفزاز الأوروبيين ودفعهم إلى خانة خصومنا! وسوف تكون “إسرائيل” في غاية السعادة إذا نجحت – وساعدها البعض منا- في ربط الفلسطينيين وقضيتهم العادلة بهتلر وأمثاله.
وهناك في هذا العالم الكثير من النماذج الإنسانية الرائعة التي يمكن لنا أن نعجب بها ونحبها ونقدرها، وأن نعلن ذلك بالصوت العالي. هناك مثلاً غيفارا الذي أفنى حياته مناضلاً في سبيل الشعوب المقهورة في أمريكا اللاتينية ضد هيمنة وسطوة الرأسمالية الأمريكية المتوحشة. وهناك أيضاً مارتن لوثر كنغ، في أمريكا نفسها الذي لم يكل ولم يمل وهو يناضل ضد العنصرية البغيضة وضد ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، إلى ان دفع حياته ثمناً لكفاحه. وهناك غاندي في الهند المناضل العظيم ضد الاستعمار ومن أجل السلام وحرية بلده واستقلالها. وهناك نلسون مانديلا، المناضل الإفريقي الكبير ضد نظام الفصل العنصري والذي أمضى 27 عاماً خلف القضبان من أجل قضية شعبه، بل من أجل البشرية كلها.
تلك بعض النماذج الإنسانية التي يمكن للفلسطيني أن يعجب بها ويقدرها، وأن يدرس تجاربها ونهجها، بعيداً عن هتلر وعن عنصريته المقيتة وتعصبه ودمويته التي لا تشبهها سوى دموية مناحيم بيغن وإسحاق شامير وجرائمهما!
ومن الناحية التاريخية كانت هناك علاقة بالفعل بين هتلر والشعب الفلسطيني. فعندما اشتعلت نيران الحرب العالمية الثانية في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي شدّ مفتي القدس الحاج أمين الحسيني الرحالَ إلى برلين، حيث استقبله أدولف هتلر ورحب به.
وقد أمضى الحاج أمين سنوات الحرب في ألمانيا، وكان خلالها ناشطاً في حشد التأييد لألمانيا بين صفوف الفلسطينيين والعرب، والتحريض على بريطانيا العظمى التي كانت القوة المستعمرة الرئيسية في بلادنا.
فهل كان الحاج أمين مخطئاً حين انضم إلى معسكر هتلر وأيّد المانيا في حربها العالمية الكبرى؟ من الإجحاف التسرع في الإجابة وإصدار إدانة للحاج أمين على رهانه الخاسر على هتلرن وهو الرهان الذي ألحق ضررا سياسيا بالقضية الفلسطينية في وقت لاحق. لقد استغل الصهاينة موقف الحاج أمين أشد استغلال وبنوا عليه دعاية هدامة في أمريكا وأوروبا صورت الشعب الفلسطيني كجماعة من عملاء المجرم هتلر وإن حربهم ضد اليهود في فلسطين هي امتداد لحرب الإبادة الهتلرية ضد اليهود في أوروبا ! وحصد اليهود ثماراً كثيرة لتلك الدعاية المضللة والتي استندت إلى الصورة التي جمعت الحاج أمين بهتلر.
ولكننا اليوم في عام 2021 ونتكلم عن التاريخ بأثر رجعي بعد أن عرفنا ما جرى وما حصل بعد ذلك. وأما الحاج أمين فالصورة لديه كانت مختلفة في تلك المرحلة وهو طبعاً لم يكن يعلم الغيب ليعرف أن هتلر سيكون هو الخاسر في النهاية. وعندما قرر الحاج أمين الانحياز إلى هتلر كانت ألمانيا وقتها القوة العالمية الصاعدة والواعدة وكان بأسها شديداً ودعايتها قوية جداً (صوت العرب من برلين كانت أول إذاعة أجنبية ناطقة بالعربية، وتأسست حتى قبل إذاعة لندن العربية التي جاءت رداً عليها) وكانت كل المؤشرات تقول إن المانيا ستهزم بريطانيا العظمى وستسيطر على العالم. ولذلك لم يستطع المفتي أن يقاوم إغراء الانضمام إلى الطرف الرابح لأنه تصور أن الفوائد ستكون كبيرة جداً له شخصياً وللشعب الفلسطيني ككل عندما تنتهي الحرب العالمية بانتصار “الصديق ” هتلر! كما أن الحاج أمين كان يرى بعينيه المشروع الصهيوني وهو يتقدم كل يوم برعاية بريطانيا العظمى التي أصدرت وعد بلفور وعملت بجد لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، ولذلك لا عجب أن يتجه بناظريه إلى عدو بريطانيا واليهود معاً باعتباره الأمل في الخلاص! ويضاف إلى ذلك علاقة العداء السياسي المستحكم بين الحاج أمين وملك شرق الأردن عبد الله بن الحسين الذي كان يعمل تحت الوصاية البريطانية.
ورغم هذه الأسباب المنطقية التي تبرر قرار الحاج أمين إلاّ أنه لا بد من القول في النهاية أنه قد أخطأ بالفعل. فالرهان على القوى العظمى الأجنبية لحل القضايا الوطنية ليس توجهاً صائباً على الإطلاق. وهتلر حين يستقبل مفتي القدس ويعده بدعم استقلال فلسطين وحريتها فهو كان ببساطة يهدف إلى الاستفادة من شخصية دينية بارزة في تحريض شعوب الشرق الأوسط المسلمة ضد عدوته بريطانيا، لا أكثر. أي إنه فقط أراد الاستفادة من الخدمات التي يمكن أن يقدمها المفتي للمشروع الألماني. وحتى لو انتصرت ألمانيا في حربها العالمية ما الذي يضمن أن تفي بوعودها للحاج امين؟ في أكثر التقديرات تفاؤلاً لن تكون فلسطين عندئذ غير دويلة تافهة تتبع مستعمراً جديداً – يتكلم الألمانية بدل الإنجليزية – ولا تملك من أمرها شيئا، أي أنها ستكون قد استبدلت مستعمراً بآخر!
فكان الأجدى بالحاج أمين الحسيني أن يركز جهده وجهاده في الداخل، في فلسطين وأن ينأى بنفسه وبقضية شعبه عن متاهات صراعات القوى الأجنبية العظمى التي لا ترى فينا وفي بلادنا إلاّ عبيداً يخدمونها وغنائم تنهبها.