الوجه الآخر لابتهال القرنفلة
زياد جيوسي | عمّان – الأردن
الشعر كان ولم يزل مرآة العرب، وهو في نفس الوقت مرآة لروح الشاعر وما يتفاعل بداخلها من أحاسيس ومشاعر من خلال الدفقة الشعرية وإشراقة اللحظة بالتعبير عن المكنونات المخفية، من خلال تجسيد المشاعر بصورة حقيقية على شكل لوحات مرسومة بريشة الكلمات، والشعر بالتغيرات التي طرأت عليه من شعر البحور الى الشعر الحر “التفعيلة” في اربعينات القرن الماضي وصولا إلى النثيرة المعاصرة، بقي يعكس عبر الجرس الموسيقي واللوحات الفنية من خلال التعابير والكلمات والتشابيه والصور والفن والأحاسيس ما يجول في روح الشاعر، وحين أهدتني الشاعرة أميمة يوسف ديوانها “ابتهال القرنفلة” مذيلا بإهداء رقيق وجميل، رأيت بالعنوان جمال يشد القارئ لكي يستمع لهذه الابتهالات ويجول الديوان ليقرأها، فالابتهال هو التضرع والدعاء إلى الله لطلب العون فمصدر الكلمة عربي على وزن افتعال ومصدرها ابتَهَل من الجذر بَهَلَ، وحين تأملت لوحة الغلاف التي تظهر وجه الشاعرة وهي في حالة ابتهال ومنديلها الأسود الذي يغطي شعرها، ضمن لوحة فنية غامضة بألوان تثير مشاعر متناقضة في الروح من خلال الألوان الداكنة المتمازجة بين الأزرق بدرجات مطفية واللون الأسود، مما دفعني أن ابدأ بقراءة الديوان على مهل وبتأني محاولا ازاحة الستار عما هو خلف الكلمات وأين حلقت روح الشاعرة، بعد أن قرأت الاهداء لروح والدها التي رحلت وأمها شرفة الندى وأولادها الأربعة معاذ ومحـمد ومؤمن ومعتز.
حين تجولت في نصوص الديوان البالغة 28 نصا توزعت على 128 صفحة من القطع الكبير، شعرت بكم الأحاسيس والمشاعر والجمال فيها، مترافقة مع لوحات ملونة للفنان التشكيلي المتميز عماد أبو شتية، فتمازجت اللوحات المرسومة بالحروف مع اللوحات المرسومة بالألوان لتشكل إبداع مختلف بين الشعر واللون، معبرٌ القصيد عن مشاعر إنسانية مختلفة شعرت بها في تحليقي في فضاء الديوان، وكلما أبحرت بين بحور القصائد والنصوص، كنت أجد الأسطورة والحزن والأنا والآخر تنثال من بين القصائد والصفحات، فتنصهر مع بعضها بسيل عرِم من الأحاسيس والمشاعر، ولذا أحببت البحث عن الوجه الآخر لابتهال القرنفلة بين الحروف والنصوص وما خلفها، فالبحث عن المجهول دوما كان ديدني سواء بالكتابة أو في رحلاتي في الوطن الصغير والوطن الكبير والدول الغربية، التي كنت رحالا فيها باحثا عن المجهول بقلمي وعدستي كقناص للجمال، فاقتنصت عدة مسائل رأيتها في الديوان هي:
أزهار وأساطير وتناص لفت نظري استخدام الشاعرة لرموز أسطورية وأسماء ورود لها رمزيتها كعناوين لقصائدها أو في ثناياها، فاستخدمت زهرة اللوتس في قصيدة “زهرة اللوتس” التي تنبت في نهر النيل لتصف نفسها بها: “أنا لوتس الـ هامت بنيلك.. أودعت.. في حضن روحك سرها المتدثرا”، واللوتس وردة جميلة مائية عطرية تنمو عادة على أطراف الأنهار والبحيرات وتجمعات المياه، وتتميز بتفتح ازهارها مع الفجر والإنغلاق مع الغروب لتسقط اوراقها بعد خمسة ايام، وينحني برعمها نحو الماء لتسقط البذور وتبدأ بدورة جديدة من الحياة والجمال، وكأن الشاعرة تجدد دورة الحياة من خلال قصائدها ونصوصها، واستخدمت أسطورة طائر الفينيق الذي يحترق ويتولد من جديد من قلب الرماد في نفس النص مخاطبة الآخر: “يا طائر الفينيق أيقظ جذوة.. بين الضلوع فضوء حبك أسفرا”، وعادت في نصها “ايقاع عذب” للفينيق مجددا بالقول: “فترفقًا بالقلب، أية نغمةٍ.. إن تهدنيها توقظ الفينيقا”، وفي نص “مراد المراد” نراها تشبه نفسها بشهرزاد والآخر شهريار بنص آخر، وفي نص آخر تشبه نفسها بعشتار والآخر بتموز بقولها: “وكأني عشتار هائمة.. تبكي على تموز بالنعش”، ووصفت نفسها أنها أسطورة عنقاء في نص “هذي أنا، وبلقيس في نصها “طريدة”، وفي نفس الوقت تلجأ للتناص في نصها”رسالة إلي” مع القرآن الكريم في سورة مريم فتقول في نصها: “هزي إليك بجذع الشوق واثقةً.. من نخلة الروح كم يساقط الرطب”.
الأنا والحديث عن الذات والحزن بداية الديوان في قصيدة “إشراق”، فهي تقول فيها: “أمسيت أجمع أحزاني ألملمها.. وأبصر القلب مسفوحا على الغسق”، لكن “الأنا” والتي تقف منتصبة في وجه الآخر، وفي وجه الحزن تكون هي القوة والملاذ في هذا النص: “سأرتدي حللا من زهر قافيتي.. وأرسل الفجر يزهو من دجى الحدق”، وفي غالبية النصوص والتي تستحق كل قصيدة فيها تقريبا قراءة تحليلية نقدية للمشاعر والوصف وما وراء السطور، نجد الحديث عن الأنا والذات والافتخار بها وتشبيها بتشابيه جميلة كما زهرة اللوتس التي أشرت اليها أعلاه: “”أنا لوتس..”، ولعل اللجوء إلى ذلك لمقاومة مسحة الحزن التي نجدها بين السطور وفي النصوص كما في نص: “بنت الصباحات” الذي يسوده الحزن والندم أيضا: “يا أيها الليل حسبي ما أكابده.. أما حفظت معي أنشودة الندم”، وفي مواجهة غياب الآخر وابتعاده تبقي على الحلم: “سأستضيء بنور فاض من ألمي.. ولن أفرط حتى الموت بالحُلُم”، فالفخر والاعتزاز بالذات لا يفارقانها، ففي نص “وجهان” تفتخر بنفسها فتقول: “أنا يا صحب قلب من حرير.. يفيض محبة ويدوس حقده”، وفي نص “جبل المعنى” تبلغ بها الأنا إلى تشبيه نفسها بالقرنفلة: “أصبحت في جنة المغزى قرنفلة.. غنت لكل يد أنشودة الأزل”.
الأنا لا تتوقف في قصائد الديوان فمن نص إلى نص تزداد الأنا والفخر بالذات ومديح النفس والتفاخر بها، ففي نصها “عشتار تبكي تموز” يظهر ذلك جليا في قولها: “أنا وردة لكنني غضب.. فاحذر رحيق الورد في البطش”، وتواصل الحديث عن الأنا والذات والتفاخر بها ففي نصها “إمرأة مثلي” نجدها تصف نفسها: “إمرأة مثلي ناعمة.. ستجيء ملاكا في الغسق”، ولكن بعد كل ما تصف بها نفسها نجد أن كل هذه الوصف من أجل أن يمنحها الآخر روحه فتقول: “فامنحني روحك كي أحيا.. عانق أنفاسي في ألق”، وهذا التفاخر بالذات نراه بصور مختلفة في نصوص أخرى مثل “”ابتهال النار” حيث الأنا تتجلى فيه بقوة في: “فنوري ساطع حتى كأني.. أفوق اناقة البدر اكتمالا”، وتبرز ظاهرة المديح للأنا في نصها “هذي أنا” حيث تتغنى بحروف اسمها حرفا حرفا لتنتقل لتفاخر كبير بالنفس تنهيه بالقول: “فإذا أتيت إلى أميمة مرة.. لزرعت عمرك في رؤوس بناني”، لكن في نصها “رسالة إلي” نجد كما كبيرا من الحزن والألم والإنكسار: “قد قلتها وثقوب الروح يجدلها.. حزن غزا القلب والأضلاع تنتحب”، وفي بيت آخر تقول: “كم من جبال الأسى مرت على كبدي.. والشيب يغزو فؤادي والمنى تثب”.
“الآخر” هو الوجه الثاني لابتهالات القرنفلة، فنرى الشاعرة في نصوصها تخاطبه باستمرار، وهذا نجده يتكرر بصور جمالية مختلفة، ففي نصها “زهرة اللوتس” ترى أن بعاده أقفر القلب: “ما ضر لو ضحك الزمان وبشرا.. بالوصل قلبا في بعادك أقفرا”، وتشكو من عناده: “وتطاولت أشجار قربك واستوت.. لتصد ريحا من عنادك صرصرا”، فتخاطبه: “كن نهري الدفاق كن لي الكوثر”، وفي نص “شارع المواجع” تنتقل من الذكرى والحزن والألم إلى تحقق الحلم مع الآخر بالقول: “غير أني وقد لبستك نورا.. نام ليلي ليوقظ الحل فجرا”، ويتجلى الآخر في نصها “رقية” حيث تصفه بالقول: “إن قال فاح الصدق من كلماته.. وتراه حرا موفيا إما وعد”، وفي نصها “مراد المريد” والذي جاء على شكل حوارية شعرية تورد على لسان الآخر: “أحبكِ يا أعز الوردِ معنى.. فحبكِ وحده العمر الجديد”، وتصفه بشهريار: “أواري شهريار برمش عيني.. فيسهر في دمي الليل السعيد”، وهذا نراه في نصوص أخرى معبرة عن مشاعر كبيرة تجاه الآخر مثل نص “احتياج”، “سراب”، “مما باحت به الشهرزاد”.
ولكنها في نصوص أخرى تفقد الأمل من الآخر وبه أحيانا، وتوجه له التحذيرات حينا آخر، فتقول في “بنت الصباحات” بعد الحزن المنسدل في ثنايا النص: “خذ ما تريد وهاجر لا تعد أبدا.. يدي سماء وعصف الريح همس فمي”، فقد فقدت الأمل المرتجى منه: “لا أنت ترحم آمالي وتحرسها.. ولا ترد عواء الذئب عن غنمي”، فنشعر بتناقض المشاعر وكأنها في مهب الريح بين عشق وألم بالتجوال بين النصوص، ففي “نص يا كل كلي” ايضا نرى فقدانها الأمل بالآخر فتقول: “كفاك صهيلا ودعني لجرحي.. لئلا تخون مناك منايا”، بينما في نهاية النص تعود لمشاعر الحب فتقول: “فكيف الهروب وأنت سياجي.. ونبضك عشب نما في خطايا”، وفي نصها “عشتار تبكي على تموز” تؤكد على فقدان الأمل بالآخر بقولها: “جمعت قشا كي أعشش في.. غصن الهوى فحرقت لي قشي”، وفي نصها “معراج” تحذره بالقول: “يا نرجسي الهوى في قصرك العاجي.. حاذر هديري وإعصاري وأمواجي”، وتخاطبه بنفس النص بصيغة الأمر وليس الرجاء كما في ثنايا الديوان: “كن سيرة نقشت أسرار داليتي.. وارسم أمانيك في تطريز ديباجي”، وتعود في نصها “طريدة” تبتهل الى الله أن يجمعها بالآخر: “فاقض يا الله ما شئت وهب.. مهجتي أُنسا بمن أهوى مُريده”، بينما في نصها الموجع “يا فؤادي البعيد” تتألم من الآخر الذي هجر، فتوجه له السؤال عن غيابه وتعاتبه بقوة وتناشده العودة بين ضعف انساني وكبرياء الأنا.
والديوان اضافة للأنا والآخر لم يخل من مشاعر وأحاسيس أخرى، فالشاعرة أم فلا تنسى ابنها معتز في نصها: “يا صغيري” فتقول من ضمن ما قالت: “وأدفع عنك ظلام الليالي.. وأرفع ما استطعت ظلم البشر”، ونلاحظ أن الحزن في بعض النصوص يكون أقوى من الأنا بعكس النص الأول في الديوان في قصيدة “إشراق”، فنراها تغرق بالحزن في قصيدتها “ترانيم ناي” وكأنها وافقت بين العنوان ونغمات الناي الحزينة والقصيدة التي يتجلى بها الحزن والألم، فتهمس: “وليس سوى الذكرى تؤانس خلوتي.. ولحظة تذكاري تلوح سنينا”، وفي نص “حديث المرايا” وهي قصيدة من ثمانية نصوص كانت تحاور مرآتها بنفس فلسفي وبحث في الحياة والوجود والمجتمع الذي تحياه، ومراحل العمر بين الماضي والشباب وبين تقدم العمر، فهي تبدأ النص الأول بسؤال موجه للمرآة التي ترافقها: “بربك من هي الأحلى.. أيا مرآتي الأغلى”، ولأن بقاء الحال من المحال نجدها في النص السابع تقول: “وها المرآة تنكرني.. وتلفظني وتكتئب”، وفي النص الثامن تقول: “ألوذ إليك مرآتي.. وعمري شارد نزق”، ولكن نرى أيضا نزعة صوفية في نصها “مناجاة” حين تناجي الله وتبتهل له أن يدلها على الطريق: “فغيرك ما رجا تحنان قلبي.. ولا أمسى إلى أحد ذليلا” وتبتهل الى الله سبحانه وتعالى: “فهبني منك يا رب الدليلا”، وهذه القصيدة بالذات أعادت إلى ذاكرتي قصيدة أبو نؤاس: “يارب إن عظمت ذنوبي كثرة.. فقد علمت بأن عفوك أعظم”، من زاوية اللجوء الى الله سبحانه وتعالى والابتهال اليه بعد أن تضيق الطريق ويظلم الأفق، فهي تختم مناجاتها للواحد الأحد بالقول: “أنا يا رب أرجو حين أرجو.. ملاذا آمنا ورضا ظليلا”.
وملاحظة لا بد منها قبل ختام ابحاري في الديوان أنه قائم على شعر البحور، إلا أنها أدخلت نصوص من خارج نصوص البحور في جنبات الديوان، وبرأيي هذا كان خلل يضعف من جمالية الشعر، فبجانب شعر البحور لا شعر آخر في نفس الديوان، فقد ظهرت النصوص يتيمة بين نصوص البحور الوارفة، فأوردت نصها من فئة النثيرة المعنون “أحيانا” ونصها “تشققت جفافا في غيابك”، ونصها “كون أحمق” وهو أقرب لبحر الديوان كونه على شعر التفعيلة “الشعر الحر”.
وهكذا نرى في الديوان صراع نفسي يطغى عليه بين مشاعر الحزن والألم والوحدة والخوف، صراع بين الأنا والآخر، بين اشتداد الحنين للآخر لكي يقترب، وبين الرغبة العارمة أن يبتعد، فنرى بالديوان صراع مع الذات ومع الحياة، بين الفخر بالذات ومديحها، وبين زحف الزمان والعيش على تذكر ما سبق، وبين فلسفة وجودية للحياة ونظرة واقعية للمحيط، وبين الأمل والحلم من جانب، والخوف من الغد وبين الأبناء ومحبتهم من جانب آخر، فشعرت أن أميمة يوسف كانت في مولودها البكر وكأنها في مركب في البحر ما بين هدوء وصفاء، وما بين عواصف وأمواج، لا تمتلك فيها إلا مجدافين: روحها وقلبها لتواجه العاصفة القادمة.
“عمَّان 27/3/2021”