حـق العـودة ليس للنحـر !!
عصري فياض | فلسطين
لا أحب أن ألوك كلاما أصبح بديهيا، أو أكرر مسلمات قد يكون البعض ملَّ من تكرارها، ولكن هناك ثلاث مواقف تتابعت في السنوات الأخيرة استوقفتني فيما يخص بالثابت الأهم بنظري من الثوابت ألفلسطينية، وهو حق العودة؛
الموقف الأول ما قاله الرئيس محمود عباس في لقاء ملتفز: إنه متمسك بحق العودة، ولكنه شخصيا قد لا يعود لبلده الأصلي ” صفد “، وقوله أيضا لمجموعة من الشبيبة “الإسرائيلية” المحسوبة على اليسار ويسار الوسط التي زارته في مقره في رام الله: “لا نريد أن نغرق بلدكم باللاجئين؛
والمتابعة الثانية ما كتبه كاتب وشاعر وسفير فلسطيني في مقال مطول قبل نحو عامين يذهب فيه للقول: “إن حقنا في القدس هو أهم من حقنا بالعودة، وأن حق العودة يمكن التوصل لاتفاق حوله ولن يكون عائقا في التوصل للسلام كما قال. الأمر الثالث، تغردية سياسي فلسطيني يحتل المركز الثاني على صفحته الشخصية في توتروهو من قائمة انتخابية ستشارك في الانتخابات المزمعة القادمة، حينما قال: ” لا خيار لنا إلا التضحية بحق العودة”.
هذه المواقف الثلاث، إذا ما وضعت على توجهات المفاوض الفلسطيني، وتصريحاته التي تردد بهذا الشأن دائما “حل عادل لقضية اللاجئين حسب القرار 194” نلمس أن هناك توجه في القيادة الفلسطينية لزرع ثقافة جديدة، القصد منها هو تفتيت التمسك بهذا المفهوم الراسخ في وجدان أكثر من سبعة مليون فلسطيني حالمين ومتمسكين بهذا الحق الفردي والجماعي في العودة لوطنهم الذي هُجِّروا منه قسرا وتحت النار والجرائم والمذابح هم وأبناؤهم وأحفادهم، فإننا نلمس أيضا أن هناك نوعا من ثقافة تطويع هذا الحق وتلينة ليكون قابلا للتغيير ولو بنسب ليقدم كمرونة في التفاوض القادم.
ولنرجع لمفهوم حق العودة الذي كان وما زال ثابتا من ثوابت الحق الفلسطيني، ونحلله بالمنطق المبسط، المواطن العربي الفلسطيني صاحب الأرض في فلسطين ومدن وقرى الداخل الفلسطيني تعرض على إمتداد الانتداب البريطاني وقدوم أفواج الهجرة اليهودية لاعتى سياسات التهجير والاقتلاع والتي وصلت ذروتها في ايار من العام 1948 في اقتلاع ما يزيد على سبعماية الف فلسطيني من أكثر من أربعمائة مدينة وبلدة وقرية فلسطينية، والدفع بهم عنوة إلى الشتات وداخل الوطن في مخيمات كانت وما زالت الأطول عمرا في التاريخ، في جو من العذابات والحرمان والبؤس والفقر والاضطهاد..وما أبقاهم على قيد الخارطة السياسية والجغرافية إلا أمل ومطلب نما في وجدانهم، توارثوه جيلا بعد جيل، وهو حقهم الساطع القاطع الذي لا يحتمل التأويل ولا التضليل في العودة لأرضهم التي هُجِّروا منها، وتعويضهم بعد العودة عن سنين عذاباتهم وبعدهم عن أرضهم وأعمالهم كأبسط حق قانوني وشرعي وإنساني، وهذا الحق الذي نما وكبر وتعاظم وتصلب وبلغ كل مفاهيم السلام والمطالبات الإنسانية والكونية هو الذي كان شرارة الثورة الفلسطينية الحديثة، والدليل على ذلك أن المخيمات وتجمعات اللاجئين بالذات كانت ولا زالت رحم الثورة الأول، وأن سيل التضحيات كان تحت شعار التحرير والعودة، ولما كان هذا المطلب هو مطلب حق لم ينكره أحد في العالم وعلى مدار عشرات السنين إلا دولة الاحتلال وبعض مناصريها في الإدارات الأمريكية الأمر الذي أنتج وبيسر وسهولة القرار 194 الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم التي هُجِّروا منها والصادر بتاريخ الحادي عشر من كانون أول من العام 1948 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، كما أصبح قرار العودة كمفهوم ساطع عنوان للحق الفلسطيني، ومفهوم ساطع لحل قضية الشرق الأوسط برمتها، من هنا حق العودة كثقافة ثابتة كان وما زال مفهوم راسخا وسبق تبني هيئة الأمم المتحدة له، أي أنه بقوته وقوة مدلولاته كان وما زال روح الحق الفلسطيني، وعموده الفقري، لأنه لا يمكن تحقيق أي سلام أو تسوية في المنطقة ما دام هناك لاجئون ومشردون بعيدين عن أرضهم ووطنهم، وقد فشلت كل محاولات دمج الفلسطينيين في المجتمعات العربية المحيطة بالوطن الأم بالرغم من وجود عوامل كبيرة وكثيرة قابلة لتسهيل الاندماج، لكن الفلسطينين اللاجئين يرفضون مبدأ التوطين والتعويض رفضا قاطعا، كما أن الرئيس ياسر عرفات عبر خلال مفاوضات كامب ديفيد الثانية عن صلابة الموقف الفلسطيني بخصوص حق العودة عندما عرض عليه كل من يهود باراك رئيس وزراء” إسرائيل” حينها والرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون إعادة نحو مئتي ألف لاجيء فلسطيني فقط، وبحث ملفات لاجئين آخرين لاحقا وعلى سنوات كحل رمزي لقضية اللاجئين وحق العودة فرد عليهم قائلا: “أنا بعزمكم على جنازتي”… ليكون الرد قاطعا مانعا في رفض أي تنازل عن هذا الحق الأساسي.
من هنا، نقول، إذا كانت الثوابت الفلسطينية المقدسة في المفهوم النضالي الفلسطيني، هي ثلاث الدولة والعودة والقدس، فإن حق العودة هو قلب تلك الثوابت، وإذا كانت القضية الفلسطينية هي قضية الشعب والأمة، فإن حق العودة هي روح ذلك الحق، فلا ثوابت إلا بحق العودة الثابت والكامل، ولا قضية للشعب الفلسطيني بدون الروح التي تشعل حياتها نضالا وسعيا، وما التصريحات ولا الأقلام ولا التغريدات تستطيع أن تجزأ أو تلين أو تتجاوز هذا الحق إطلاقا، ولن يكون مثل هذا الحق العظيم قابلا للاستفتاء على مبدأ الاخذ برأي الأغلبية أو الأكثرية، فهو مسلمة لا يمكن أن ينال من صلابتها تقدم التاريخ، وإختلاف الظروف، فوجع اللجوء والاقتلاع والحرمان وعذابات التشرد والفقر والظلم والاجرام والمجازر، لا يساويه بالحد الأدنى إلا عودة كاملة لأرض الوطن الأم وتعويضه عما أصابه من خسارة وعذابات نتيجة ذلك البعد القسري، وإذا كانت هناك نوايا تمهد لها تلك التصريحات والمقالات والتغريدات، فإن بيئة هذه الغاليبة العظمى من الشعب الفلسطيني في مخيمات الوطن والشتات والتي أطلقت الثورة الفلسطينية الحديثة وعلى مواجات ما زالت مستمرة بالرغم من الحال العربي والإسلامي والتقاعس الدولي، فإنها قادرة على إنتاج ثورة ثانية وبقوة وعمق أكبر وفي ظل تنامي ظروف متصاعدة في دعم الحق الفلسطيني من الألف إلى الياء في المنطقة، بل على انتزاع ذلك الحق انتزاعا بعيدا عن مراهنات التسوية الفارغة التي لا زال البعض يحلم بها رافعا شعار” السلام خيار استراتيجي”.