ما بعد الأربعين
رحاب يوسف |طولكرم – فلسطين
كُلُّ نُقطَةِ عُبورٍ في هذه الحياة هي بِدايَةٌ لنُقطَةٍ جَديدَةٍ، وعند الوصول إلى الضفَّةِ الأخرى تكونُ بدايةً لحَياةٍ جَديدَةٍ بكُلِّ ما فيها من مَطَبَّاتٍ.
يعيشُ الإنسانُ ذُعراً ورُعباً عندما يَقِفُ أمام التقويمِ الزَّمَني، يَرى عَدَّادَ عُمرِهِ يَسيرُ بسُرعَةٍ، يَستَيقِظ مُتَفَقِّداً التجاعيدَ والخيوطَ؛ لأنَّ المُجتَمَعَ يَكرَهُ التَّقَدُّمَ في السنِّ، ولا يُساعِدُ المُتَقَدِّمَ على تَقَبُّلِ سِنِّهِ، والنساءُ كُلَّما قَطَعَتْ مَرحَلَةً قَطَعَتها بخَوفٍ، دون أنْ تَستَمتِعَ بتَفاصيلها، معَ أنَّهُ وَراءَ كُلِّ خَطٍّ وانثناءَةٍ ألف حِكايَةٍ وحكايةٍ، تروي قِصَّةَ نَجاحٍ أو فَشَلٍ.
يوماً ما سَنَقِفُ أمامَ المِرآةِ، ونَرى التجاعيدَ بالعينِ المُجَرَّدَةِ، واللونَ الرَّماديَّ يَغزو شَعرَنا، ونَتَساءَلُ: متى مَرَّ العُمر؟ والقَلَقُ ليس على ما مَرَّ، بل على ما هوَ قادِمٌ، إذا لم تُهَيِّئ نَفسَكَ لمَرحَلَةِ ما بعدَ الأربَعين سَتُصدَمُ، وسَتَقَعُ فَريسَةَ مُصطَلَحاتٍ جَديدَةٍ، مثل: “يا حجَّ، يا حجة “.
سِنُّ الأربعين أجمَلُ مَراحِلِ العُمُر، سِنُّ العَقلِ الكامِل، والطاقات الفِكرِيَّةِ، والخَيالِ، والحِكمَةِ، والتوازُنِ، والنُّضجِ الثقافيِّ، ومُراجَعَة كُلِّ القناعات – بما فيها البديهيَّةِ – وسِنّ عُلُوِّ شأنِ العَقلِ على العاطِفَةِ، وسِنّ الكِتابة الرَّصينَةِ والتأمُّلِيَّةِ، وسِنّ القِراءَةِ الهادِئَةِ البَعيدَةِ عن النَفعِيَّةِ، سِنّ الإفادَةِ من التجارُبِ، لا سِنّ الانطفاءِ، وإطفاءِ الأنوارِ، والاختباءِ تحت الفِراشِ ليلَ نهار، وانتظار الموت!
لو تأمَّلنا أوَّلَ عَشر سِنين في حياتنا سنَجِدُ أنَّنا لا نَتَذَكَّرُ أيَّ شَيءٍ إلا الأشياءَ المُهِمَّةَ، وفي العَقد الثاني ما بين مَدرَسَةٍ وجامِعَةٍ، وخَوفٍ من الأهل والمُستَقبَلِ، وفي العَقد الثالث سِنُّ القَلَقِ من العَمَلِ، والحُبِّ، والزَّواج، والإنجاب، مَرحَلَةُ بِدايَةِ التأسيس لكُلِّ شَيءٍ، نُحاوِلُ فيها إثباتَ الذات دون أيَّةِ خِبرَةٍ، أما في الأربَعين وما بَعدَهُ تكونُ القُدرَةُ على إدارَةِ الحياة أعلى، والمَزيدُ من الحِكمَةِ، والتجاعيد، والشَّعرِ الأبيَضِ، والفَهمِ.
الأربعون رَقَمٌ خاصٌّ عند الأنبياءِ والرُّسُلِ، ففي الفِكرِ الصُّوفيِّ عندما نَبلُغُ هذا السنَّ نزدادُ قُرباً من الله، وفي المَسيحيَّةِ خَرَجَ المسيح في القَرِّ أربعين يوماً، وفي الإسلام نَزَلَت الرِّسالَةُ على سيدنا مُحَمَّدٍ – صلى الله عليه وسلم – في سنِّ الأربعين، وطوفان نُوحٍ – عليه السلام – استَمَرَّ أربعين يوماً، رغم أنَّه دَمَّرَ ما دَمَّر.
أعظَمُ فُرصَةٍ تُعطيكَ إياها الحياةُ للإنتاج هي ما بعدَ سنِّ الأربَعين؛ لأنَّكَ تَصِلُ الى أقوى قُوَّةٍ من حيث كَمالِ العَقل، قال تعالى: “وَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ” الأحقاف (15).
لا تستَطيعُ أن تعيشَ عُمرَكَ وعُمرَ الآخرين، فعِشهُ كما تُحبُّ، وكما تريدُ، وبما يُرضي اللهَ، فالشَيخوخة هيَ مُتعَةٌ واستمراريَّةٌ للحياة، وبدايَةُ عطاءٍ يَختَلفُ عن عطاءِ العِشرينات والثلاثينات ؛ لذا ففي مَرحَلَةِ ما بعد الأربعين ابحَثْ عن شَغَفِكَ، ومَواهِبِكَ التي كانت في الطفولَةِ، إن كان في الرَّسم فطَوِّرْ مَهاراتِكَ فيه، وإن كان في رُكوبِ الخَيل فانتمِ إلى نادي الفُروسِيَّةِ، وإن كان في الزراعَةِ وتربيَةِ الحَيوانات فلك ذلك، ما المانعُ من أن تكونَ رائداً مُتَمَيِّزاً وأنت فوق الأربعين، وأن تبدأ من جَديدٍ دون أن تَنظُرَ إلى المُجتَمَعِ الذي لا يُشَجِّعُ المُتَقَدِّمَ في السنِّ، خاصَّةً النساء!
لمَ لا تَقبَلُ الشروطَ التي تَفرِضُها عليكَ مَرحلَةُ تَقَدُّمِ العُمُر؟ لمَ لا تربِطُ نجاحَك أو فَشَلَكَ بالإنجاب أوالزواج؟
مَنْ مِنَّا لَم يُرَتِّب أحلامَهُ على الشكل الذي يرغَبُ به؟ لكنَّها انهَدَمَت، ثم أعَدنا ترتيبَها مَرَّاتٍ ومَرَّاتٍ، فحَصَلنا على بعضِها، وحُرِمنا ممَّا تبقَّى – كما أرادَت الأقدارُ – فلِمَ جَلدُ النَّفسِ، وتحميلُها فوقَ طاقتها؟
لا تقضي حياةَ ما بعد الأربعين واقفاً على أطلال الماضي مُرَدِّداً:
ألا ليتَ الشبابَ يَعودُ يوماً فأُخبِرُهُ بما فَعَلَ المَشيبُ
فتحاوِلُ إخفاءَ عُمركَ باللجوءِ إلى اللِّباس الشَّبابيِّ، فيزدادُ الأمرُ سُوءاً، ويَظهَرُ تَقَدُّمَكَ في السنِّ أكثرَ، إنَّها أزمَةُ مُنتَصَفِ العُمر، يتَفاوَتُ تَقَبُّلَها مِن شَخصٍ إلى آخَرَ، مِنَّا مَن يَتَجاوَزُها بسُهولَةٍ، ومِنَّا مَن تُسَبِّبُ له اضطراباتٍ نَفسيَّةً وجَسَديَّةً.
رأت الدكتورَةُ والمُعالِجَةُ النفسِيَّةُ “غِنى حمود” أن الـ 40 هي السنُّ التي تبدأ تَشعُرُ فيها المَرأَةُ بأنَّها في مُنتَصَفِ الطريق، أي نِصفُ عُمرِها قد مضى، والنصفُ الثاني آتٍ، أما إذا كانت عَزباءَ فتَشعُرُ أنَّها فَقَدَتْ شيئاً يجبُ أن تتَدارَكَهُ كامرأةٍ، وخِلافاً للماضي، نلاحظُ اليومَ أنَّ أغلبَ النساء تَتَوقَّفُ لديهِنَّ الدَّورَةُ الشهريَّةُ باكراً، ممّا يزيدُ من أزمَتِهِنَّ، لِما يُرافِقُ هذا الوضعَ من عَلاماتٍ تُشعِرُهُنَّ بأزمَةِ مُنتَصَفِ العُمُر، فيَدخُلنَ في حالةِ كآبَةٍ شديدةٍ، ويَشعُرنَ بأنَّهنَّ غيرَ قادِراتٍ على الإنجاب والعطاء كالسابق، وهذا الشعورُ يُسَبِّبُ لهُنَّ قَلَقاً على مُستَقبَلِهِنَّ، ويَلجأنَ إلى انتقاد أنفُسِهِنَّ ومَظهَرِهِنَّ، وتَختَلِفُ وسائِلُ تعاطي المرأةِ معَ نَفسِها في هذه المرحلة – باختلافِ شَخصِيَّتِها، وتَربِيَتِها الصحِّيَّةِ، والنفسيَّةِ، والاجتماعيَّةِ – فواحدةٌ تقبَلُ الواقعَ الجديد، وتَتَصالَحُ مَعَهُ، وأُخرى تَرفُضُهُ، وتَدخُلُ في أزمَةٍ، وصِراعٍ مَعَ نَفسِها، وهناكَ دِراسَةٌ لجَمعِيَّةٍ بَرازيليَّةٍ في مَدينَةِ “ساو باولو” تقولُ إنَّ أزمَةَ مُنتَصَفِ العُمر لدى المرأة تبدأ في عمر الـثلاثين، لا في الأربعين – كما هُوَ مُتَعارَفٌ عليه – لأنَّ المَرأَةَ في ثلاثينياتها تَشعُرُ بتَغَيُّراتٍ كثيرَةٍ على صعيد شَكلِها، وحالَتِها النفسيَّةِ، وتُصابُ بحالَةِ تَرَدُّدٍ كبيرٍ في اتِّخاذِ قراراتِها، وينتابُها الخوفُ والقَلَقُ على صِحَّتِها ومَظهَرِها، وهذا يُشعِرُها بالكِبرِ قبلَ أوانِه المعروف، وتقول “د. حمود”: إنَّ المَرأةَ المُتَزَوِّجَةَ تَشعُرُ بأزمَةِ مُنتَصَفِ العُمُر عندما يَكبُرُ أولادُها ويتزَوَّجون، وتُصبِحُ وحيدةً، تخافُ أن يَترُكَها زَوجُها، أو يَتَزَوَّجَ عليها؛ بسبب التغَيُّرات التي طرأت عليها جَسَديَّاً ونَفسيَّاً، وسَبَبُ هذا الخوفِ يَعودُ عادةً إلى قِلَّةِ ثِقَتِها بنفسِها، وعَدَمِ وُجودِ مَن يَدعَمُها، ويَقِفُ إلى جانِبِها؛ لتجاوُزِ هذه الأزمَةِ، فانشِغالُ الأولاد – عندما يَكبرون – بصداقاتٍ جديدةٍ، أو بتأسيسِ عائِلَةٍ، وانهماكِ الزَّوج بالعَمَلِ يُشعِران المَرأةَ بالفَراغ، ويَجعَلانِها تتَنَبَّهُ إلى أدَقِّ التفاصيل التي لم تَكُن تُعيرُها اهتماماً، ففي الماضي كانت مَشغولَةً بتَربِيَةِ الاولاد، والاهتمام بشؤون البيت، وغالباً ما كانت تُهمِلُ نَفسَها، لتُصدَم بالواقع الذي وَجَدَت نَفسَها فيه فجأةً، فتتساءَلُ: أين أنا؟ وماذا كُنتُ أفعلُ؟ وماذا حَقَّقتُ؟ إذ تَشعُرُ بأنَّها خَسِرَتْ كُلَّ شَيءٍ معَ زَواجِ أبنائِها،
وقد تَختَلِفُ رُدود الفِعل من امرأةٍ إلى أخرى، وفقَ مَسيرَةِ حياةِ كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُنَّ، وطباعِها، وظروفِ عَيشِها. فمنهُنَّ مَن تَتَقَبَّلُ المَرحَلَة بسهولةٍ، بينما تُعاني أخرَياتٌ أزمَةً كبيرَةً، لذا تَنصَحُ “حمود” أنْ تَقِفَ العائلةُ، والأهلُ، والأصدقاءُ، إلى جانب المرأةِ؛ لتفادي هذه الازمَةِ، كي تَنجَحَ في تَخَطِّي المَرحلَةِ، فلا بُدَّ من وُجودِ شَخصٍ مُقَرَّبٍ منها تَبوحُ لهُ بأسرارِها، وهواجِسِها، فتَطمَئِنُّ وتَتَعَزَّزُ ثِقَتها بنَفسِها، وفي حال تَأزَّمَت المرأةُ كثيراً يُمكِنُها الاستعانَةُ بطَبيبٍ نَفسِيٍّ يُخَلّصُها من كآبَتِها، عِلماً أنَّ هذا الحَلَّ مُستَبعَدٌ لدى البعض؛ بسبب نظرَةِ المُجتمَع الخاطئةِ للمرضى النفسيين.
كما على المَرأَةِ أن تُدرِكَ أنَّ دَورَها لم يَعُد يَنحَصِرُ بالتربية، والتضحِيَةِ، والعَطاءِ، بل تجاوَزَ كُلّ ذلك وُصولاً إلى الإرشاد والتوجيه، فهي باتت مَرجِعاً لأولادِها ومَعارِفِها، يَستَشيرونَها في مختلف قراراتِهم؛ بسببِ خِبرَتِها الطويلة في الحياة.
وتُؤَكِّد “حمود” أنّ للأولاد دوراً أساسيّاً في حياةِ أمِّهِم بعد الزواج، إذ عليهم أن يَبقوا على تواصُلٍ مَعَها، ويُشعِرُوها بحاجتهم إليها، وكذلك الزوجُ ينبغي عليه استعادَةَ أُسلوبِهِ السابق في الغَزَلِ، وإحاطَتِها بالحنان؛ ليُشعِرَها بأنَّها ما زالت أنثى جَميلَةً في نَظَرِه، وأنَّهُ يُحِبُّها مهما تَغَيَّرَت وتَقَدَّمَت في العمر، فالمرأةُ التي شارَفَت على مُنتَصَف العُمر ولا تَجِدُ مَن يَهتَمُّ بِها، تَشعُرُ بالإحباطِ والكآبة.
أخيراً ترى “حمود” أنَّ بعض النساءِ يَلجأنَ في هذه الفترة إلى الجراحَةِ التجميلية؛ لاستعادَةِ شبابِهِنَّ، أو ليَظهَرنَ بعُمرٍ صغيرٍ، وقد يَقَعنَ فَريسَةَ الجهل، فيعَشَقنَ شُبّاناً أصغَرَ سِنَّاً مِنهُنَّ؛ ليُشعِروهُنَّ بأنَّهُنَّ ما زِلنَ مَرغوباتٍ، وهذه الحالاتُ موجودةً بنِسَبٍ مُتَفاوِتَةٍ، وتَختَلِفُ تَبَعاً لظروفِ كُلِّ امرَأةٍ، والبيئَةِ التي تَعيشُ فيها، وفي المقابلِ قد تَهتَمُّ بعضُ النساءِ بدِراسَتِهِنَّ، ومُستَقبَلِهِنَّ، فينتَسِبنَ إلى الجامعة، أو يُتابِعنَ الدراساتِ العُليا من أجل استعادَةِ أنفُسِهِنَّ، ومَكانَتِهِنَّ في المُجتَمَع، وهؤلاء النساء يتَصرفنَ بعقلانِيَّةٍ؛ لاقتِناعِهِنَّ بأنَّهُنَّ ما زِلنَ قادِراتٍ على العطاء.