عندما تتفكك العوالم.. زكي العيلة في “بحر رمادي غويط”^
الدكتور خضر محجز | غزة- فلسطين
لذكرى الزميل المبدع زكي العيلة الذي رحل عنا، فرحل برحيله صمت الوقور
لا تتحقق أدبية الأدب من حضور كلمة بعينها، أو من وجود تركيب لغوي بذاته، في هذا النص أو ذاك: فالحقيقة أن كل الدوال اللغوية تعمل بالطريقة نفسها، والكلمات تتشابه في آليات إحالتها إلى المعاني. وقديماً أكد الجاحظ على أن المعاني ملقاة على قارعة الطريق، وإنما العبرة في طريقة استخدام الكلمات، وأن تحقق الأدبية إنما يكون من خلال منظومة علاقات تجمع بين الكلمات والجمل والفقرات. وهذه المنظومة كلها هي ما يطلق عليها البنيويون مصطلح البنية (structure)”(1). أو هي ما سبق أن قال فيها عبد القاهر الجرجاني: “إنها خصوصية في نظم الكلم، وضم بعضها إلى بعض، على طريق مخصوصة، أو على وجوه تظهر بها الفائدة”(2). نافياً بذلك تعلق الفصاحة بمجرد اللفظ: “كيف، والألفاظ لا تتغير حتى تؤلف ضرباً خاصاً من التأليف، ويُعمد بها إلى وجه دون وجه من التركيب والترتيب؟!”(3).
لا الكلمة، ولا الجملة ـ ولا حتى الفقرة ـ بقادرة على تحقيق الأدبية وحدها، بل وضع الكلمة بين الكلمات، ووضع الجملة بين الجمل، ووضع الفقرة بين الفقرات؛ هو الذي يحقق الأدبية أو ينفيها، فيتحقق بذلك الإدهاش، وينشأ الانزياح بين الاستخدام اليومي للغة من جهة، والاستخدام الجمالي من جهة أخرى. فلنلاحظ كيف يفعل زكي العيلة ذلك في مجموعة (بحر رمادي غويط).
1ـ قصة: نوافذ أخرى للبوح:
في القصة الأولى التي تحمل العنوان: نوافذ أخرى للبوح؛ ومنذ اللحظة الأولى، يلاحظ المتلقي أنه يقف بين عالم من الأنقاض: حيث تتفكك العوالم، ثم لا يعود بالإمكان إعادة تركيبها؛ وذلك حين ينشئ الراوي (narrator) قراءة غاضبة لمرحلة ما بعد أوسلو.
يقول ﭙيرسي لوبوك في كتابه ذائع الصيت: “إنني أعتبر مجمل السؤال المعقد عن الأسلوب، في صنعة الرواية، محكوماً بالسؤال عن وجهة النظر: السؤال عن علاقة راوي القصة بها”(4).
فلنتأمل إذن كيف يوجه راوي زكي العيلة عين الكاميرا نحو أدق أسرار المشهد، وأكثرها بشاعة، نافذاً بها من وراء كل البهارج الشكلية، إلى البنية العميقة لمشهد ما بعد أوسلو. فلنلاحظ في هذا المقطع، كيف يتم توظيف هذه البهارج الخادعة كخلفية، مهمتها إبراز التناقض الحدي، الحادث بين كل من الشكل الخادع، والمضمون الأعمق:
“النيونات عريشة تبهر البصر… تاكسيات يتصاعد منها عطرٌ نفاذٌ وأغانٍ صاخبة.. بحر شاسع على بعد أمتار يتقيأ زبداً ورغواً”(ص8).
وإذ ظل الراوي، حتى المقطع السابق، مشغولاً بوصف الخلفية الشكلانية للمشهد المكرور؛ فلقد نراه يسدد ضربته ـ بطريقة فجائية ـ إلى كل مشاهد القبح التي أنتجها أوسلو. فجأة يضرب زكي العيلة ضربته على شكل لقطة “زوم”، مركزة على البنية العميقة، التي قام عليها المحتوى الفكري الكامل، لهذا المشهد القصير؛ ليقول لنا فوراً:
“هاتف نقال يتحدث، ربما، عن صفقة وقود، أو أغذية مضروبة”(ص8).
ها نحن نرى الراوي يكشف عن نواياه، إذ يقرر أن الهاتف النقال يتحدث عن صفقة وقود، أو أغذية فاسدة!. ولئن بدت الأيديولوجيا هنا ظاهرة، بما يهدد بكشف الأدوات الفنية؛ فلقد نرى الراوي يعود ـ في حركة التفافية سريعة ـ إلى الخداع: خداعنا نحن المتلقين عن حقيقة المشهد، حين يوظف الإنساني فينا، لكشف بشاعة السلطة المشتراة بالشرف. فهل كان الراوي راغباً في أن يقول لنا: لا تتوقعوا من كل من كان في موقع السلطة أن يكون مجرد متاجر بأقوات الفقراء، فلربما يمكن أن يكون هذا المسؤول ـ الذي ترصده عدستي ـ منشغلاً الآن بترتيب موعد مع امرأة!. وحري بمن كان هذا حاله أن نحسن به الظن، على اعتبار أنه مجرد إنسان له الحق في الحب!.
لقد كان ممكناً لنا أن نفهم شيئاً كهذا، لولا عودة الراوي ليرسم لنا المشهد، بطريقة توحي بأنه ليس مجرد راوٍ موضوعي محايد، يقول ما يرى فحسب، بل هو راوٍ أيديولوجي شديد المكر، يسعى إلى تفتيت العالم، وإنشاء عالم آخر مكانه، أكثر جمالاً، أو أقل قبحاً على الأقل. فلنرصده يقول:
“ربما يرتب موعداً مع امرأة بلحم وفير متأجج، تزوم وهي تفتح خزائنها المشتهاة”(ص8).
فالمرأة المشتهاة في هذا المشهد ليست مجرد أنثى، بل هي ذات لحم يعاني من الوفرة، بالضبط كما تعاني خزائنها المشتهاة من الامتلاء بملابس غالية الثمن، وسط مجتمع يعاني من قهر الاحتلال والفقر والمرض!. ألسنا نرى هنا كيف تتخفى الأيديولوجيا، وراء العديد من الضوابط الفنية، التي من أهم مهماتها صرف نظر المتلقي عن الاهتمامات الحقيقية للمؤلف الضمني (implied author): انتقاد صفقات الأغذية الفاسدة، التي يجريها عقداء السلطة ووكلاؤها، ولفت النظر إلى ذلك الحلف غير المقدس، القائم بين متنفذين في السلطة وموردي الوقود الإسرائيليين!.
إذن، فاهتمام الراوي بحواسنا الملتهبة، لم يكن إلا مجرد أداة (إنسانية) لنقد سلطة أوسلو!. والمرأة الوفيرة المتأججة مهمتها خداعنا عن البنية العميقة لنصوص ما بعد أوسلو. لا جرم، فهكذا يفعل الأدب الجيد عندما ينتقد واقعاً سياسياً: إنه يجعل المحتوى السياسي للنص تحت القشرة، متخفياً بدهاء لا يكشفه إلا متلقٍ خبير. وهكذا يفعل النقد العلمي، عندما يوجه اهتمامه نحو كشف هذه الألاعيب الفنية، وتهيئة المتلقي لقراءة كاشفة، تحلل علاقات النص، وتكشف ما اختفى من وراء بنيته الشكلانية. وهكذا يفعل زكي العيلة في كل قصص مجموعته، إذ ينوع أدواته: مخفياً بعضها، ومعرباً عن بعض.
2ـ قصة: “دنكرك.. الدهيشة”:
دنكرك مدينة في شمال فرنسا ـ حيث يلتقي القنال الإنجليزي ببحر الشمال ـ شهدت الانسحاب المأساوي لقوات الحلفاء، أمام الجيش النازي في العام 1940. وقد زارها زكي العيلة، في أوائل عهد السلطة الوطنية الفلسطينية، ضمن وفد من أدباء فلسطينيين، غطت أسماءهم وتحركاتهم جميعاً الصحافةُ المحلية، في حين اكتُفي بالإشارة إلى زكي من بينهم باسم (آخرون): فكان يقال: وحضر الحفل فلان وفلان وآخرون. أي والله. هكذا غطت الصحافة تحركات الكتاب، في حينه. الأمر الذي يقودنا إلى بداية فحص لكيفية إصدار نتاجات زكي العيلة، هذا الذي يُكتفى بوصفه بـ(آخرين).
يلاحظ المتفحص لمجموعة (بحر رمادي غويط) أنها صدرت في القدس عام 2000، مع أن الكاتب يعيش في غزة، وحريّ بإصدارته أن تنشر في غزة!. فهل ضاقت علاقات غزة الإنتاجية بإصدار كهذا!. وما هي هذه العلاقات التي تسمح بنشر نصوص أقل جودة ـ من خلال مؤسسات عامة أو شبه عامة ـ ثم لا تسمح لهذا النص بالظهور إلى النور؛ خصوصاً عندما نعلم أن إصداره الذي جاء بعد هذه المجموعة، في العام 2003، هو الآخر قد صدر عن مؤسسة في الضفة الغربية؟!.
لقد لاحظت أن الرجل مقل في إنتاجه الإبداعي، لأنه متمهل يكثف النصوص، ويعيد المراجعة، ليخرج نصاً متماسكاً، قلما تجد فيه زائدة هنا أو هناك. ومع ذلك فهو يواجه تعثرات عند النشر ـ على الأقل في غزة ـ بينما نرى نصوصاً متكاثرة، لكتاب متكاثرين ومكثرين، ثم نجد علاقات إنتاج تسمح بصدورها، مبكراً، وفوراً، وبأموال عامة!.
وإذا كان كل هذا جزءاً من مشكلة الإنتاج والتلقي، ومنظومة الثقافة، في كل العالم عموماً، فإنه هنا، وفي هذا الجزء من الوطن المنكوب، أشد حضوراً، وأكثر ضرراً، خصوصاً ونحن نعلم أن أدوات الإنتاج الثقافي لدينا، يتحكم فيها قلة من متواضعي الموهبة، ومثيري الكثير من الضجيج على ساحة الحكم والتحكم.
وإذا كانت أدوات النقد الثقافي قد تنبهت أخيراً إلى هذه الفضيحة الثقافية، وسلطت الضوء عليها؛ فلقد عادت إلى التأكيد على أن الأدب الجيد وحده هو الذي سيبقى في المستقبل، وهو الذي سيظل يستحق القراءة، حتى لو عانى من كل مصدات الإبداع في الحاضر. ولئن كان زكي العيلة قد مات جسدياً، فالمستقبل كفيل بالقول إذا ما كان سيعيش أدبياً، أم لا. وإن كنت أراهن أنه سيعيش، في حين تموت أسماء تدعي أن تحكماً سياسياً ما، قادر على منحها شهادات إبداعية!.
هذا عن دنكرك والنشر والزيارة. فماذا عن الدهيشة؟.
كلنا نعلم أن الدهيشة مخيم بائس، في مدينة بائسة، في وطن بائس، يسيطر عليه أعداء بائسون، ويتحكم فيه متحكمون بائسون. وللبؤس دلالات متعددة، وتحكمه علاقات توازن صاغتها معاهدة أوسلو، التي وقعت فوق رأس المخيم، قبل زمن الكتابة بسنوات قليلة. فكيف يصوغ الراوي هذه الثنائية العجيبة، بين الغنى والفقر، أو الحرية والاحتلال، أو الثقافة والفساد؟. ثم كيف يغلف كل ذلك بغلاف من علاقات متشابكة، تحاول إخفاء محتواها السياسي الأقوى؟. يقول:
“تحتمي بأنفاس نجوى. تغطس في ثنايا صدرها المرشوش برائحة بحر غزة، تلاحقك أنياب دوريات البر والبحر. تنتشر فوق مساماتك دمامل مفتوحة”(ص14).
حسناً.. نحن ـ سكان غزة ـ قد علمنا أن دوريات اليهود البحرية، بعد أوسلو، ظلت تسيطر على بحر غزة، وتمسحه طوال أربع وعشرين ساعة في اليوم. فما شأن دوريات البر، واليهود لا يطأون البر؟!. هل يريد المؤلف الضمني أن يقول إن دوريات العسكر الثابتة، لأجهزة السلطة الفلسطينية، تخدش حرية الإنسان، وتنتهك حرية الشاطئ، كدوريات اليهود سواءً بسواء؟. هل يريد تذكيرنا بهذه المعسكرات والإقطاعيات التي حاصرت الشاطئ، ومنعت المواطنين من المرور، ثم رفعت علم فلسطين؟!. أنا شخصياً أظن ذلك، خصوصاً وأن بحر جباليا ـ التي أقطنها ـ لم أتمكن من الوصول إليه طوال سنوات، حتى جاء محمود عباس، في وزارته الأولى، وأعاده لي.
ولكن محمود عباس لم يكن قد تولى السلطة بعد، حين كتب زكي العيلة هذه القصة. ومحمود عباس لا يعارض أوسلو، مثل المؤلف الضمني الذي يوظف راوياً رثاً ليقول، في نفس الصفحة وبعد كلمات قليلة:
“وغزة التي كانت تحلم بوسائد عرائس البحر، مازالت تتمرغ في مسالكها الموحلة ، والبر شوك، البر أسلاك مدببة ، البر أبراج مزينة بالقطيفة الحمراء”(ص14).
تبرز أمامنا الآن ثنائية فاجعة، قوامها غزة الحلم، مقابل غزة الواقع: غزة التي كانت تحلم من أوسلو بوسائد عرائس البحر، فاكتشفت أنه لم يعطها إلا التمرغ في الوحل، والأبراج العالية، التي تعتدي على جمال المكان، وحرية البشر، ثم هذه المعسكرات البائسة، لهذه القوات البائسة، المتعددة الأسماء، والتي انحصرت مهمتها في سرقة البحر وخنق المواطن، رغم أنها ترفع علم فلسطين!.
هي ذي نتاجات أوسلو في نظر المؤلف الضمني: مدينة تحلم، وواقع بائس: احتلال لا يزول، وسلطة تمارس الغواية بأبراجها، وتمارس القوة الكاذبة بدورياتها، وتمارس حصار البحر بمعسكراتها العشوائية. وخلال كل ذلك يظل الإنسان مطحوناً، والبحر مضرباً عن الحضور:
“والبحر واسع غويط، لا يعطي جسده إلا لمن يثق فيه”(ص15).
ها نحن نلاحظ، منذ العنوان، وصف البحر بالغويط. و”الغويط” كلمة شديدة العامية، يستخدمها الفلسطيني العادي بمعنى يقارب كلمة “العميق”. فلم لم يستخدم زكي العيلة الكلمة الفصيحة؟!..
إن هذا النص يكشف عن قدر من التوتر والتردد والإغفال المتعمد والتناقض. “والأصح أن نقول: إن المفسر ـ لا النص ـ هو الذي سيكشف هذه التناقضات، لأن النص نفسه لا يستطيع أن يتحدث مباشرة عن دلالاته”(5).
يقول النص المكتوب إن هناك أبراجاً مترفة عالية، ثم يتوقف عند هذا الحد. فماذا يقول لاشعور النص؟. ماذا تقول الكلمات غير المكتوبة؟. يمكن للمفسر أن يقرأ ما بين السطور ما يلي: إن هذه الأبراج المترفة المتعالية لا تعبر عن روح المكان، ولا عن شعور الإنسان. إن الدوريات، التي تقهر الشاطئ، لا تنحاز إلى الرجل العادي العامي الفلسطيني. هذا عالم مستلب يمتلك لغته الخاصة، التي لا تمت إلى المواطن الفلسطيني بنسب أو جوار. لدينا هنا عالم يعيد إنتاج استلابه الخاص، بالقوة والفساد، مقابل عالم متمسك بأصالته، رغم صمته العميق عمق البحر. ولكل من هذين العالمين لغته. هنا تبرز لنا لغة العالم الأصيل، كلغة مختلفة تشكل أهم شفرات أصالته. بمعنى آخر يمكن القول بأن لعالم متنفذي أوسلو لغته، فيما لفلسطين زكي العيلة لغتها النابعة من باطن الأرض، ووحل المزارع، وعمق البحر!. فليستخدم المترفون الأقوياء كلماتهم الخاصة، وليستخدم المكان لغته الأصيلة “الغويط”.
نحن نرى هنا ثنائية (الأصالة/الغربة) في صورتها الواضحة، التي يريد المؤلف الضمني أن يقول إنها ترادف ثنائية أخرى هي (الجمال/القبح). فالبحر غويط، يحدث الفلسطيني المقهور بلغته. ولنترك للدوريات والأبراج أن تستخدم لغتها، التي يترفع عنها زكي العيلة. وهكذا كان بعد ذلك: إذ عاش البحر الغويط، فيما انسحبت دوريات البر، في انتظار تلاشي الأبراج ودوريات البحر، وتسلط الأقوياء!. ألم يقل زكي العيلة إن هذا البحر الواسع الغويط لا يعطي جسده إلا لمن يثق فيه؟!.
3ـ قصة: تحويلة:
الراوي في “تحويلة” هو شخصية من شخصيات النص، تتحدث عما تشاهده. أي أنه يساوي الشخصية، لا أكثر ولا أقل؛ الأمر الذي لم يدل عليه فقط استخدام الراوي لضمير المخاطب “أنت” في الحديث إلى نفسه، بل ـ إضافة إلى ذلك ـ اكتفاؤه بتصوير ما يراه هو، أو ما بلغ إلى علمه من الآخرين. وهذه هي إحدى تقنيات متعددة ومتاحة، يلجأ الكتَّاب إلى توظيفها، لدى رواتهم الورقيين. أما المؤلف الضمني، فهو شخصية الكاتب، التي يريد منّا أن نراها نحن المتلقين، من خلال نصه(6). وهذا نستكشفه من رصد منظومة القيم والأيديولوجيا، المنثورة تحت القشرة الجمالية.
المؤلف الضمني في “تحويلة” شخص كاره لأوسلو، معارض للاستغلال السياسي، يرفض مظاهر القمع. نلاحظ ذلك من خلال قول الراوي:
“عاد رشاد لافي. تفكك الإبعاد. صفوف من الناس تسلم عليه، تهنئه بالعودة المباركة. تنضم إلى قافلة المهنئين. لا تدري لماذا أحسستَ ببرودة حالما نزعت أصابعك من يده!. الجلسة شعارات، انتفاخ: الدور الهام المنوط به. يلكزك جارك، يخبرك بأنه قد أبعد على ذمة تنظيم، وعاد محسوباً على آخر”(ص76).
إن الراوي، من موقعه الأيديولوجي، هو الذي يقول: “شعارات، انتفاخ”. كما أنه هو الذي يهزأ من عودة أمثال هؤلاء المتسلقين، عندما ينقل أقوال السذج من الناس، في وصفهم لمثل هذه العودة بالمباركة. لكن هذا الموقع الأيديولوجي ـ أولاً وآخراً ـ يشير إلى المؤلف الضمني؛ وبشكل آخر، يشير إلى المؤلف كما يود أن يراه المتلقي. إنه يريد أن يكشف البنى العميقة لأوسلو، تلك البنى التي كانت متوارية تحت شعارات “الثورة” و”النضال” و”الوطن”… هكذا يريد المؤلف الضمني لقصة “تحويلة” أن يقول لنا: وذلك عندما يدفع راويه إلى تصوير شخصية “المناضل” رشاد لافي:
“محباً للظهور، ميالاً للحركة، للعلانية، أضحى المرجع في حسابات الآخرين… يؤكد البعض أنه وراء كثير من المسائل الخلافية”(ص73).
ومع ذلك، فإن قيام العدو الصهيوني بإبعاده، يستثير الفقراء ـ الثوار الحقيقيين ـ للقيام بتظاهرات وفعاليات تتصدى لهذا القرار. ويتبدى موقف المناضل الحقيقي رجل الشارع “حسن شاهين”، عامل التنظيفات في وكالة الغوث الغاضب، وهو يخاطب الراوي بقوله:
“هل سمعت يا أستاذ!. أبعدوا رشاد لافي، مع مجموعة من الشباب!. هدفهم تفريغ البلد!”(ص74).
وعلى الرغم من اعتراض المؤلف الضمني، على كل هذا الغضب من حسن شاهين، في سبيل شخص محب للظهور، ويكثر من افتعال المشاكل؛ إلا أن حسن شاهين يظل مصراً على الثورة والمواجهة والانتفاض، لأنه فلسطيني بريء من المصالح الذاتية، وساذج يرى في هؤلاء المتعرضين لقمع الاحتلال أولاداً له:
“هؤلاء قطعة منا. لا فرق بينهم وبين ولدي بكر”(ص74).
فتكون نتيجة هذه “السذاجة الوطنية” أن يصاب حسن شاهين بإصابة بالغة، تسبب له الشلل الكامل، ثم الجري وراء محاولات بائسة لاستصدار تحويلة طبية، تتيح له السفر للعلاج خارج البلاد. ولكن هذه “التحويلة” تتأخر، بسبب تعقيدات الاحتلال.
إلى هنا والأمر ما يزال عادياً، إذ حدث مثل هذا خلال الانتفاضة الأولى مرات عديدة. وإذا كان الراوي يكتم اعتراضه على ما حدث، فإنه لا يفعل ذلك زهداً في الكفاح، بل زهداً في ارتباط هذا الكفاح بهذا النوع من (المناضلين)، وخوفاً من حدوث ما سوف يحدث بعد ذلك بالفعل. إن المؤلف الضمني يريد هنا تأكيد رفضه لمثل هذه الممارسات، التي تجعل من النضال فعلاً يثير أقسى مشاعر الندم والإحباط. حيث يعود (المناضل المبعد) بالفعل، لترتفع وتيرة الأحلام لدى المصاب المشلول حسن شاهين، كون رشاد لافي ـ الذي أصبح الآن صاحب منصب كبير في سلطة أوسلو ـ يعرف قصة الإصابة. وحتى لو لم يعرف، فهو مناضل ولابد أن يتعاطف مع المناضلين، خصوصاً وأن المطلوب هو مجرد تحويلة للعلاج، في مكان فيه علاج مناسب!.
لكن المناضل العائد ـ المنقلب على ذاته وشعبه ووطنه وطبقته ـ لا يحتمل مجرد وقوف المريض، بكرسيه المتحرك، في موقف سيارته أمام الباب. فيصرخ في حسن شاهين والراوي كليهما:
“هل أصابكما العمى؟! لِمَ تقفان هنا؟ ألا تبصران اللافتة؟!”(ص78).
هكذا إذن!.. هكذا أصبح لرشاد لافي لافتة وسيارة وباب، وقعد حسن شاهين مشلولاً، يتسول مناضلاً سابقاً كان هو السبب في محنته!. وهكذا تفكك عالم حسن شاهين، وسقط فوق رأسه. أما كيف رصدنا هذا التفكك؟. فمن هذا الخطاب اللغوي، الذي لملم أطراف المشهد البائس، بكل هذا القبح الأخلاقي والوطني والإنساني:
“لافتة تنتصب كأنها حبل مشنقة، تعلن أن المكان موقف خاص لسيارة”(ص78).
“تكلبش على حافة الكرسي، تتحاشى النظر في وجه الراقد فوقه، الجذع المرخي، الظل والعين والمتراس، يتعالى صوت أنفاسه جرحاً غير مندمل، طنين في الأذن، جلطة صمت تزحف، نظرات مهروسة، الشارع يبدو ثقباً صغيراً، تجر الكرسي، ثقل حجر طاحون، تحس كأنك تجر سفينة تتكسر في غيوم متناطحة مشروخة”(ص78).
فماذا يريد أن يقول لنا الراوي بعد كل هذا عن أوسلو؟!.
سبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى!.
ــــــــــــــ
الإحالات:
^زكي العيلة. بحر رمادي غويط. (مجموعة قصصية). ط1. منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين. القدس. 2000
1ـ جيرالد برنس. المصطلح السردي. ترجمة عابد الخزندار. مراجعة وتقديم محمد بريري. المجلس الأعلى للثقافة. المشروع القومي للترجمة. القاهرة. 2003. ص224
2ـ عبد القاهر الجرجاني. دلائل الإعجاز. قرأه وعلق عليه محمود محمد شاكر. الهيئة المصرية للكتاب. مكتبة الأسرة. القاهرة. 2000. ص36
3ـ عبد القاهر الجرجاني. أسرار البلاغة. تحقيق محمد الفاضلي. ط1. المكتبة العصرية. صيدا وبيروت. 1998. ص8
4ـ ﭙيرسي لوبوك. صنعة الرواية. ترجمة عبد الستار جواد. سلسلة الكتب المترجمة. منشورات وزارة الثقافة والإعلام. بغداد. 1981. ص225
5ـ كريستوفر بتلر. التفسير والتفكيك والأيديولوجيا. مادة في كتاب بعنوان: التفسير والتفكيك والأيديولوجيا. ﭙيتر بروك وآخرون. ترجمة وتقديم نهاد صليحة. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة. 2000. ص105
6ـ انظر: وين بوث. بلاغة الفن القصصي. ترجمة أحمد خليل عرادات وعلي أحمد الغامدي. جامعة الملك سعود. الرياض. 1994. ص83 ـ 85