عز الدين المناصرة.. ديوان قمر جرش كان حزينا
رائد محمد الحواري | نابلس – فلسطين
كلنا سمعنا أغنية “جفرا، وبالأحمر كفناه” لمارسيل خليفة، واعتقد أن هاتين الأغنيتين/القصيدتين فهما الخط العام الذي تميز به “عز الدين المناصرة، فهناك تركيز على الألوان في قصائده، وعلى المكان/الخليل وعنبها وكرومها، الاغتراب/الغربة/الصحراء وما تحمله من ألم، المرأة وما فيها من جمال وحياة، ويتناول عنصر الحياة والطهارة “الماء”،/ وأيضا انحيازه للشعب/للفقراء وتناقضه مع ما هو رسمي، كما نجده يكرر الألفاظ والعبارات في قصائده، حتى يبدو وكأنه (يطرب) بترديدها، اعتقد أن هذا العناصر نجدها في العديد من قصائده، وديوان “ديوان قمر جرش كان حزينا” يؤكد على هذا الخط.
سنأخذ نماذج من الديوان لنرى كيف يستخدم الشاعر هذا الخط، يقول في قصيدة: ” مرثية مناضلة عرفتها في دمشق”:
“… تظل القبيلة تبكيك حتى الشروق
وأنت على الرمل ضائعة كالرحيق
ومن أين في الصحراء سنأتي لكل الأحبة…
بالماء والرمل، كل القبور هنا تطلب الماء والرمل..
كل القبور هنا تشتهي ذرة من تراب الخليل.. ويافا تشتاق أن يرحل القبر من..
هذه المدن الساكنة” ص5، الصحراء نجدها حاضرة من خلال: “القبيلة، الرمل (مكررة)، الصحراء” والمكان/الوطن حاضرا في “الخليل، يافا” الاغتراب/الغربة نجدها حاضرة من خلال: “تبيك، ضائعة، القبور (مكررة) قبر” كما أننا نجد العاطفة نحو الفرح/الحب من خلال: “الأحبة، تشتهي، تشتاق” وبما أن الحديث يدور عن “ضائعة” فأن هذا يشير إلى المرأة التي يجد فيها وعندها ما يخفف عنه الألم.
بعضهم قال عن قصائد الشاعر أنها قصائده مباشرة وتحمل الغضب باستمرار، لكن هذا الحكم لم يكن دقيقا، فهناك رمزية التجأ إليها ليخرج من بؤس الواقع وقسوته:
“غير أن لصوص الطريق
غضبوا حين صار لنا مطر وبروق
حملوا سيفهم في الظلام وقصوا شفاهك..
حتى يكون لهم وحدهم ثمر ورحيق
آه يا وردة
في الرمل تموت وتبكيك..
كل القبيلة حتى الشروق” ص7، ففي هذا المقطع نجد الرمز حاضرا من خلال: “لصوص، قصوا شفاهك، مطر وبروق، ثمر ورحيق، تبكيك القبيلة” فرغم الألم الكامن في فكرة المقطع، إلا أن الشاعر استطاع أن يخفف على المتلقي من خلال “آه يا وردة” فبدا القارئ بعد أن تلفظ ب “آه” يشعر بالراحة، فقد أخرج ما فيه من ألم، كما أن لفظ “وردة” الناعم اسهم في الحد من القسوة وتحجيمها.
واعتقد أن جعل القائمين بفعل السواد: “غضبوا، حملوا، قصوا” مجهولين أراد به تحقيرهم، لهذا لم يسميهم لغضبه واشمئزازه منهم.
يقول في قصيدة العنوان ” ديوان قمر جرش كان حزينا”:
“آن يا منزلا عند باب الخليل
أن نقول الذي لا نقول
أن تدب البراءة فينا ونخضر ينبت …
من جذرنا عاصف فوق شط الرحيل
آن يا منزلا عند باب الخليل
أن نمر على النصب في قمة الجبل المارد المستحيل
حيث كان الذي كان حين دفتا الصبايا…
تركنا شباب القبيلة سرنا إلى بركة….
النار كان الرصاص
خائنا والمدينة ترجوا الخلاص
والحجارة خانت، مناديلنا مزقتها رياح..
الخماسين .. هبت علينا رياح الخيانة
من كل قصر جميل
آن يا منزلا عند باب الخليل
أن تطير اليمامة من أسرها فوق جسر الهوى
أن يعود الأحباء من سجنهم بعد طول النوى
أن يلم الصبا شملنا . عند نبع الحبيب” ص9، المكان حاضرا من خلال تكرار “منزلا/الخليل” وهذا التكرار يشير إلى تعلق الشاعر به وتوحده مع المكان، فبدا وكأنه هائما بالمكان، لهذا نجده يردده باستمرار، ورغم الفكرة القاسية “دفنا، خائنا، مزقتها، خيانة” إلا أن البياض كان حاضرا في نهاية المقطع: “تطير، اليمامة، الهوى، يعود، الأحبة، يلم، الصبا، شملنا” وهذا يشير إلى الأمل الذي والفرح الذي يتغذى/يغذي الشاعر.
كما أن عناصر الحياة كان حضرة في القصيدة وبطريقة رمزية: “نخضر، تطير اليمامة” وهذا يأخذنا إلى طوفان نوح والخراب الذي أصاب الأرض والناس، لكن “اليمامة ونخضر” يشيران إلى عودة الحياة/الأحبة، إلى الأرض.
المرأة أهم عنصر يلتجأ إليه الشعراء ليتخلصوا مما علق بهم من شوائب وقروح، وهذا الأمر أكده “عز الدين المناصرة” في قصيدة: ” الحب لونه أخضر”:
” أنكسر شوقا لما يأتي صوتك في
كل صباح مسحور
أسمع خطواتك فوق الدرج الحجري المكسور
طقطقة الكعب الأسود، رجرجة الخاصرة…
أزيز النار
في قلبي يخضر العشب وتنهمر الأمطار
تتراقص فوق الشجر البري ـ ارتدي
نحوي يا هذي الجنية
من جاء بوهج الغاب إلى نافذتي السحرية
من جعل الشجر البري يعشش في
زمن البارات السرية” ص17، فكرة تعلقه بالمرأة حاضرة وواضحة في المقطع، لكن هناك ألفاظ استخدمها: “طقطقة، رجرجة، تتراقص، يعشش” تؤكد هذا التعلق/الارتباط/الحاجة إليها، فالحروف المكررة والمتتابعة تعكس حالة الهيام بالمرأة، كما أن تكراره لألفاظ: “أنكسر/المكسور، المسحور/السحرية” وتقارب المعنى في ألفاظ: “يخضر، العشب، الشجر(مكررة)، البري، الغاب” يجعلنا نتأكد تشبث الشاعر بها، واللافت أن المرأة خلقت/أوجدت الطبيعة، العنصر الثاني للفرح/للتخفيف، والتي نجدها في: “صباح، يخضر، عشب، تنهمر الأمطار، الشجر، الغاب، البري، تعشش”.
ونلاحظ تعلق الشاعر بالألوان “الأسود، الأخضر، والتي يكررها في العديد من قصائده.
ونجد أن خط الشاعر العام واضح في هذه القصيدة عندما قال:
“يا ذات الكعب الأسود أعشق..
فيك الزرع الأخضر وسواد العينين
وأحبك كالبحر الراحل نحو الشطآن الخضراء
وأحبك كالطفل إذا أشتاق لثديي
سيدة غابت في الزمن السالف
وأحبك كالجائع لو أمسك بالخبز الناشف
وأحبك كالسفر على الغيم دخول مطارات الغربة
وأحبك كالمؤمن لو لاقى ربه
وأحبك كالمرأة ولدت طفلا بعد دهور العقم الخرساء
وأحبك مثل سجين قابل في
باب السجن حبيبته بعد قرار الاخلاء” ص19، هناك تكرار: “وأحبك” والتي أكدت هيام الشاعر بالحبيبة، وهناك الألوان “الأخضر/الخضراء، سواد” والانحياز للفقراء/الصراع الطبقي: “كالجائع” والطفل: “الطفل، ولدت طفلا” وكذلك الغربة/الألم: “باب السجن” فالخط الذي يميز الشاعر يتفجر عندما تأتيه المرأة، وكأنها تكشف بما فيه، وأيضا تكشف لغة/خط/ألفاظ الشاعر التي تميزه عن الآخرين.
يتوحد الشاعر مع القصيدة/الكتابة كما توحد مع المرأة، فهي التي تميزه كشاعر، وبدونها يمسى شخصا عاديا، لهذا نجده يتماهي مع القصيدة، يقول في قصيدة “قصائد مجروحة إلى سيدة ميجنا”:
“وشربت لأذكر هيئتك لفلاحة
وشربت لكي أزرع عنبا وأنا سكران
أزرع نخلا في الساحة
لكن الساحة في المنفى
والمنفى من صخر صلد أو صوان
وشربت لكي أنساك طويلا
وطويلا … لكني في كل الأحيان
لا أملك ثمن الكأس الملآن
يا غربة أيامي السواحة
أشرب كي أذكر هيئتك الفلاحة
تغمرني الأحزان
“يا ميجنا .. ويا ميجنا .. دومي”
أتمنى أن تلدغني أفعى
ترقد تحت العشب الأصفر تنهي
أحزاني وهمومي
حتى لا أسمع عنك أسيرة سجن الرومي
أو خادمة في قصر أو خان” ص52و53، التاء المربوطة في: “الفلاحة، الساحة” والتي تلفظ قريبا من ال”آه” تشير إلى حالة الألم الذي يمر به الشاعر، وهو منسجم مع فكرة فعل “شربت/أشرب” والتي جعلت الشاعر “سكران”، فهو يشرب ليكون متزنا: “لأذكر/أذكر، أنساك،” وليقوم بفعل جميل: “أزرع” فبدا فعل الشرب/السكر جميل، وبهذا قلب الشاعر المفهوم السيء للشرب/للسكر إلى مفهوم أخر، مهم وضروري له/لنا عندما نمر بحالة مثل حالته.
واللافت في هذا المقطع أنه جاء منسجما مع حالة (السكران) فهناك تناقض بين: “لأذكر/أنساك” وعندما أنهى المقطع بأمنة الموت/”تلدغني أفعى” أكد أنه سكران/متوحد ومتماهي مع ما يقوله/يكتبه.
بعد المرأة والطبيعة والكتابة يستخدم الشاعر التمرد/الثورة، عنصر الفرح/التخفيف الأخير، يقول في قصيدة” نقوش على طرف حذائي”:
“8
يقول النبي عليه السلام
يقول: ـ فيفتح باب الوعد ـ
يقول: إذا اقتتل المسلمان بسيفهما
فالفدائي شهيد” ص79، بهذا التغريب يتمرد الشاعر على المفهوم الديني، ويؤكد انحيازه إلى الفدائي والعمل المسلح الذي اجتث من الأردن، فالشاعر يستخدم عين صيغة الأحاديث النبوية والتي يكثر فيها عن فلان قال/يقول، مما جعل المقطع يبدو (بشكله) متماثلا مع صيغة الأحاديث النبوية.
بهذا يكون ديوان “قمر جرش كان حزينا” قد أكد على قوة عناصر الفرح/التخفيف التي يلجأ إليها الشعراء، المرأة، الطبيعة، الكتابة، التمرد، كما أنه أشار إلى الخطوط العريضة التي يتمز شعر عز الدين المناصرة عن غيره من الشعراء.
الديوان من منشورات دار ابن خلدون، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 1974.