شاهد د. عمر عتيق.. الحضور والغياب في ” كرنك ” اللبنانية إخلاص فرنسيس

في قصة الكرنك مفارقة خفية لا تتجلى للقارئ إلا إذا أفلح في الوصول إلى البنية العميقة للقصة ، المفارقة بين مشهدين، مشهد الفراعنة الغائبين الذين تركوا حضارة إنسانية خالدة ، ومشهد المجتمع الإنساني الذي أنهكته الحروب وأعباء الحياة وحولته إلى كائن بشري مثقل بالحزن والاكتئاب والاحتقان ، أموات لهم حضور حضاري إنساني ، وأحياء ليس لهم حضور انساني حضاري في الغالب. ولهذا نجد في آثار الراحلين عزاء لقلوبنا النازفة ، ويصبح الكرنك ملاذا نبحث في أرجائه وبين أعمدته عن بلسم أحلامنا ، وترميم إنسانيتنا ، ويصبح ملجأ للحب الذي أدمته حضارة عصرية مزعومة تسمى التكنلوجيا والتقدم العلمي ، وهذه البنية العميقة تكشف القصة عنها في الخاتمة حينما تسمع الساردة صوت مرشد سياحي متخيل: (هنا انتهت قصّتهم التي بدأت قبل تكوينهم أجنة في رحم الحياة، وشهدت هذه الكواكب عليهم، وكللتهم النّجوم برباط مقدّس، ولكن أرادا أنْ يُظهرا للبشريّة أنّ العشق هو الدين الذي يوحّد الأمّة، لم يجدا سوى الرفض والحرب والقمع)
توظف الساردة ثنائية الغياب والحضور . غياب الفراعنة وحضور المشهد السردي بتجلياته العاطفية لتحقيق التماهي بين رونق الحضارة وعبق الحب. ويرتقي الفضاء الزماني المشبع بهالة الخلود والإبداع بالحب الإنساني الى ذروة الصفاء والنقاء والسمو . فالخشوع بين أعمدة الكرنك تناظره تراتيل عشق في محراب القلب .
وتتكأ الساردة على عناقيد من الثنائيات لتعزيز البنية العميقة للقصة ، أولها : ثنائية البعد المادي والبعد النفسي للعاشق الذي يبدو في بعده المادي الجسدي (تتثاقل خطواته، أسمر، عريض المنكبين، شفة غليظة تميز بها أبناء النيل) ويبدو البعد النفسي (وكأنّه يمشى في اللاوعي، في اللاشي). ويرمز هذان البعدان إلى الإنسان التائه الضائع الذي سلبته وطأة الحياة أحلامه وآماله.
وثانيها: ثنائية الصورة الصوتية التي تتوزع على الأنين ، وموكب الفرح، وموكب الموت، وعزف الناي، (وأنين النقوش الفرعونية على الجدران كانت شريطًا سينمائيًّا تحكي قصة أحدهم، مراسيم الأعراس، مراكب الموتى، أنين خفاش الليل، النّاي الذي يتهادى من المقاهي المجاورة كلّها مجتمعة،). هذه الأصوات الضدية تجسد الصوت الداخلي في الإنسان الذي يمتزج فيه الصخب والهمس، وتمثل الصوت الخارجي الذي يمتزج فيه الضجيج والفرح أيضا .
وثالها : ثنائية الحالة النفسية ؛ شخصية سماح مشبعة بالأمل والعاشق مثقل بالانكسار .
ورابعها : ثنائية الصمت والكلام ، الصمت نزيف ، والكلام بلسم ورحيق .
وخامسها :ثنائية الصوت والكتابة. صوت سماح و وكتابة العاشق على الرمل
تتحول الثنائيات كلها إلى فضاء صوفي ؛ فحينما يدور العاشق حول نفسه يستحضر المتلقي صورة صوفي في حلقة روحانية… لكن الحركة الدائرية الصوفية تفضي إلى خوف سماح الذي يتلاشى حينما يضمها العاشق … الحضن هنا رمز إنساني تتلاشى فيه الأحزان .
تعود الصورة الصوتية لتؤسس فضاء روحانيا تُسمع فيه أجراس الكنائس وصوت أذان المغرب ، هذا الفضاء الروحاني يندغم مع فضاء رونق الكرنك وطقوسها وشعائرها وعبق التاريخ لتؤدي القصة غايتها ورسالتها وهدفها أن الحب دين الإنسانية ، بالحب تخمد نار الحرب ، وبالحب تعود للإنسان إنسانيته ، وهو ما صرحت به الساردة في نهاية القصة بقولها : (أرادا أنْ يُظهرا للبشريّة أنّ العشق هو الدين الذي يوحّد الأمّة) .هذه العبارة نواة القصة وعصبها الدلالي ، ولولاها لكانت قصة الكرنك قصة أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى