الأرصفة المتعبة والخلل في البناء الروائي
عبد الله دعيس | فلسطين المحتلة
صدرت رواية” الأرصفة المتعبة” لعماد شختور عام 2017، عن دار العماد للنّشر والتّوزيع في الخليل، وتقع في 120 صفحة من الحجم المتوسط.
أرصفة متعبة بخطى الشّهداء والمحبّين. تزاوج غير مألوف بين الشّهادة والعشق. فالشهداء بشر وليسوا مجرّد أسماء أو أرقام، بل أناس كانت لهم مشاعرهم وأحاسيسهم، يحبّون الحياة كبقية النّاس، ويعشقون ويحلمون، لكنّهم قدّموا حبّهم للوطن على كلّ حبّ، ورفضهم للظّلم والطّغيان على حياة وادعة في ظلّهما؛ فاختارهم الله تعالى ليكونوا شهداء، وأصبحوا مشعل هداية يضيء الدّرب لكلّ من يسعى إلى العيش بكرامة، وتبقى ذكراهم لتضيء طريق المحبّين، فأي حبّ أعمق من حبّ الوطن، وأي تضحية تفوق التّضحية بالنّفس.
في هذه الرّواية، يخلّد الكاتب حكايات الشّهادة والبطولة على ثرى فلسطين في هذه المرحلة من القضيّة، ويوثّق جرائم المستوطنين، الذين يستلذّون بقتل الفلسطينيّين ويرقصون على جراحهم. تبدأ الرّواية بحادثة تتكرّر كثيرا في طرق فلسطين، حيث يتسبّب المستوطنون بحوادث طرق تذهب ضحيّتها عائلات فلسطينيّة، يرقص المستوطنون وينتشون لإشباع شهوة القتل في نفوسهم، لكنّ الضّحايا تستمرّ معاناتهم، وتختلف مسارات حياتهم، بعد أن يخيّم عليهم شبح الموت والإعاقة. ويتحدث الكاتب عن جانب آخر من عدوان المستوطنين الذين يقتحمون المسجد الأقصى المبارك ويعتدون على روّاده ومرابطيه، ويسوقونهم إلى الموت بزخّات من رصاص الحقد من جنود العدوّ على بوّاباته، لتُلقى سكّين جانب الضّحيّة، ويتحوّل في وسائل إعلامهم إلى إرهابيّ مجرم. ويتحدّث الكاتب أيضا عن الشّهداء الذين يرسمون طريق الشّهادة بأنفسهم، ويضحّون بأرواحهم من أجل أن يثخنوا بالعدوّ ويذكّروه أن لا مقام له عندنا وعلى أرضنا. وعن الأسرى الذين يخوضون معارك الأمعاء الخاوية، ويجبرون العدوّ على الرّضوخ لمطالبهم صاغرا ذليلا.
وهؤلاء الشّهداء والأبطال جميعهم كانوا أيضا عشّاقا ومحبّين. كانوا كبقيّة البشر، لهم آمالهم وطموحاتهم، يعشقون الحياة وتتراقص قلوبهم شوقا للحبيب، يعملون بجدّ، ويبنون صروحا من الآمال لمستقبل زاهر في ربوع الوطن، فهم ليسوا دمى متحرّكة بدون مشاعر، ولا يائسين من الحياة انتحاريّين كما يُشار إليهم. هم محبّون، لكنّهم قدّموا حبّ الوطن على كلّ حبّ، هم عاشقون للحياة، لكنهم اختاروا الحياة الدائمة على الحياة الفانية، هم يذهبون، ولكن تبقى ذكراهم لتنير الدّرب لمن يسلك طريق العزّة والكرامة ويترفّع عن حياة وادعة في ظلّ الذّل والاستعباد.
فكرة الرّواية جميلة، والأحداث التي ذكرها الكاتب مهمّة جدّا، وتوثّق لهذه المرحلة الجديدة من تاريخ الشّعب الفلسطينيّ وقضيّته. لكن، هناك العديد من الملاحظات على بناء الرّواية وإخراجها، فحبّذا لو بذل الكاتب جهدا أكبر في تنقيحها وتنسيقها؛ لتخرج بأفضل حلّة، ولتليق بالموضوع المهمّ الذي طرحته، والعنوان الجميل المعبّر الذي حمله غلافها.
لغة الكاتب جميلة جدّا وعذبة ومعبّرة أحيانا، لكنه ينتقل بسرعة إلى لغة سرديّة تقريريّة مباشرة لتفسد ما صنع، حتّى أصبحت الرّواية وكأنّها تقرير صحفيّ في نهايتها. شعرت وأنا أقرأ الرّواية وكأنّ من كتبها شخصان مختلفان: أحدهما يجيد صناعة الكلام، وآخر يتعجّل سرد الأحداث دون رويّة. وهناك خلل كبير في استخدام علامات الترقيم، بحيث دخلت الجمل في بعضها البعض واختلّ المعنى، وأصبح من الصّعب متابعة القراءة أحيانا؛ فهناك فقرات طويلة تخلو من أيّ علامة ترقيم! عدا عن الأخطاء المطبعيّة واللغويّة.
لم يعتنِ الكاتب بعنصر الزّمان، فتداخلت الأزمنة وأصبحت الأحداث غير منطقيّة، خاصة عند الانتقال من فصل إلى آخر في الرّواية. فنضال، مثلا، ينهي دراسته الثّانوية عام 1433 هجري، ويدرس أربع سنوات في الجامعة، ثمّ يغادر إلى دبيّ لأربع سنوات أخرى، ويعود إلى الوطن ليرتقي شهيدا، مع أنّنا ما زلنا في عام 1438 هجري.
وكما يحتاج عنصر الزّمان إلى العناية، كذلك عنصر المكان. مع أنّ الكاتب يذكر أسماء أماكن حقيقيّة تدور فيها أحداث واقعيّة، فيذكر القدس ونابلس وبيت لحم ودبيّ، لكنّه لا يحدّد المكان الذي تدور فيه معظم الأحداث، فلا نعلم أين تقيم الشّخصيّات وكيف تتحرّك، ويصرّ على عدم ذكر اسم الجامعة التي يدرسون فيها مثلا. وفي رأيي أن الكاتب لم يوفّق في اختيار عناوين فصول الرّواية، ولم يكن هناك داعٍ لها.
هذه الملاحظات لا تقلّل من قيمة الرّواية التي استمتعت بقراءتها واستفدّت منها، ولكنها دعوة للكاتب لإعادة النّظر بها وإخراجها بحلّة أجمل، خاصة وأنّه يمتلك ناصية اللغة، ويصوغ الفقرات الجميلة محكمة البنيان، وكان بالإمكان أن تكون أفضل بكثير بمزيد من المراجعة والتدّقيق.