ذاكرة العرب وبدايات التدوين التاريخي عند العرب

د. صالح محروس محمد | أكاديمي بجامعتي منيسوتا الأمريكية وبني سويف

salehmahrous@gmail.com

الشائع عند الكثير من المؤرخين المحدثين أن علم التاريخ عند العرب المسلمين قام على أسس من الرواية الشفهية لعدم شيوع الكتابة في المجتمع العربي قبيل الاسلام وفي بداية العصر الإسلامى . ولم يكن ظهور الرواية الشفهية مربتطاً بالاسلام بل كان أقدم عهدا منه فالرواية بدأت فترة ما قبل الاسلام حيث كانت الوعاء الذى يحفظ به الرواة أنساب القبائل وأشعارها . وغير أن هذا لاينفي وجود كتب أو صحائف متفرقة أو دواوين مجموعة في الفترة السابقة للإسلام كما يظهر من قصة عامر بن الظرب مع الملك الغسانى .

غير أن الرواية الشفهية قبل الاسىلام مرت بتطورات أملتها طبيعة العصر وحاجات المجتمع فقد نشأت أول أمرها بسيطة ثم نمت وتطورت ولكن في البدية لم يكن لها أى صفة علمية إضافة إلى هذا لم يكن هناك أُناس متخصصون بها وإنما كان كل إنسان حر فيما يروى وكانت موضوعاتها الشعر وأخبار القبائل أى أيامها ووقائعها وأنسابها.

إلا أن الرواية الشفهية كأية ظاهرة ثقافية بدأت تتطور بتقادم الزمن وذلك لعناية العرب بالشعر وبراعتهم به فظهر ( الرواه ) وأوقفوا أنفسهم لهذا الفن بحفظه وأدائه في المحافل والمنتديات والمجالس فصار لكل قبيلة شاعر وأحيانا أكثر يضع نفسه في خدمة القبيلة باعتباره لسان  القبيلة الناطق باسمها ومن وراء هذا الشاعر راوٍ بمثابة تلميذ له حتى يصبح شاعرًا في يوم من الأيام , وبدأت الرواية تقترب من الصفة العلمية قبيل الاسلام .

ومنذ ظهور الاسلام نزل القرآن الكريم على النبي صلي الله عليه وسلم في صورة شفهية قبل أن يتحول إلى نص مكتوب وقد ردد النبي الآيات الأولى من القرآن كما سمعها واحتفظ به الصحابة في صدورهم , ولم يقرأ من صحف مكتوبة إلا في وقت متأخر لاعتماد العرب على الذاكرة في نقل المعرفة وكان الاهتمام بحفظ القرآن قد انعش الذاكرة الشعرية والنثرية عند العرب والشعوب الاسلامية وضاعف من أهمية الرواية الشفهية التى تعتمد على الذاكرة  حتى مع ظهور الكتب شرحها العلماء المسلمين بالرواية الشفهية التى حفرت في أذهان التلاميذ .

كان الصحابة رضوان الله عليهم قد شاهدوا الرسول صلي الله عليه وسلم وجالسوه وصلوا وراءه وقاتلوا تحت رايته فكان حقيق بهم أن يروا عنه ما سمعوه من حديثه معهم أو شاهدوا من أفعاله . رووها لمن لم يُكتب له حضور مجالسه ورؤيته ومصاحبته . رووها لأولادهم ونسائهم في بيوتهم , ورووها فيما بعد لأهل البلاد المحررة والمفتوحة كى ينيروا لهم سبل العبادة الصحيحة أو معالجة مشكل من مشاكل الحياة في أنشطتها المتعددة. فالرسول صلي الله عليه وسلم كان مصدر الخبر وكان الصحابة رواه ذلك الخبر أو جملة الأخبار فكانوا يتلقون الحديث عن النبي صلي الله عليه وسلم إما بطريق المشافهة أو بطريق المشاهدة لأفعالة وتقريراته لأنهم جميعا لم يكونوا يحضروا مجالسه بل كان منهم من يتخلف لبعض حاجاته .

وكان نهج الصحابة في الرواية عن الرسول صلي الله عليه وسلم يقوم على الاقلال من الرواية والتثبت والتحري من صدقها لأن أقوال الرسول وأفعاله تعد الركن الثانى من التشريع ( السنة النبوية ) وانتقلت المرويات إلى الجيل الثاتى وهم التابعين والثالث تابعى التابعين . والتأكد من صحة الحديث النبوي استدعى ما يعرف بالسند والإسناد لذكر صاحب الرواية ومن أخذها منه ما يعرف (  بالعنعنة ) ولم يظهر الاسناد إلا بعد حدوث الفتنة (35هـ) وللتأكد من صحة الرواية ظهرما يعرف بـ ( الجرح والتعديل ) لتأكد من أمانة الراوى وصحة المتن وأخضع الحديث للعقل والمنطق لمعرفة الاحاديث الصحيحة من غيرها .

وبدأ تدوين الرواية الشفهية في عهد الصحابة وركزوا على تدوين القرآن الكريم حيث نهى الرسول صلي الله عليه وسلم عن تدوين الحديث حتى لايختلط مع القرآن الكريم فكان تدوين القرآن تم في عهد الرسول الله صلي الله عليه وسلم قام به كُتاب الوحى مثل زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب وأُبي بن كعب وعبدالله بن مسعود وعبدالله بن عباس .فلما جمع القرآن الكريم في عهد أبي بكر رضى الله عنه ثم جمع الجمع النهائي بتحديد ابن العوام وشرحبيل بن سعد للقراءات المعتمدة في عهد عثمان رضى الله عنه تحرر المسلمون من عقدة الخوف على القرآن الكريم وبدأوا في تدوين الحديث النبوي الشريف والسيرة النبوية هذا لا يمنع من وجود مدونات على نطاق محدود وشخصي عند بعض الصحابة عن حياة الرسول وسيرته   ولكن لم تكن ظاهرة .

وبدأت حركة تدوين السيرة النبوية والمغازى على ثلاث طبقات من المؤلفين في هذا الحقل وكان لكل طبقة سماتها الخاصة التى أملتها حركة التطور والتدوين فالطبقة الأولى مثَلها ثلاثة من أبناء الصحابة عنوا عناية كبيرة بكتابة الحديث والمغازى وجميعهم من المدينة مما شكل مدرسة المدينة التى عنيت بالحديث والمغازى وهم أبان بن عثمان بن عفان وعروة بن الزبير بن العوام وشرحبيل بن سعد وشاركهم رجل لم يكن من أهل المدينه ولكن من اليمن هو وهبه بن منبه من أشهر كتبه كتاب المبتدأ الذى بدأ فيه التاريخ منذ الخليقة ثم تدرج به إلى العهد القديم ثم الجديد . أما الطبقة الثانية التى اهتمت بالسير والمغازى في القرن الثانى الهجرى وأشهر علمائها عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم الأنصارى (المتوفي عام 135 هـ)  وعاصم بن عمر بن قتادة ( المتوفي عام 120 هـ) ومحمد بن مسلم بن عبيد الله شهاب الزهرى ( المتوفي عام 124هـ ) أما الطبقة الثالثة لكُتاب السيرة والمغازى ظهرت في العصر العباسي وهم موسي بن عقبة (المتوفي عام 141 هـ) ومحمد بن إسحاق بن يسار المطلبي (المتوفي عام 151 أو 152 هـ) الذى يُعد عمود مدرسة المدينة . ومعمر بن راشد (المتوفي 153هـ) والواقدى ( المتوفي عام 207 هـ) أبرز تلاميذ ابن إسحاق وكتابه (المغازى) من أشهر كتب السيرة النبوية . ومحمد بن سعد بن منيع (المتوفي عام 230  هـ)هؤلاء أشهر مؤرخى السيرة والمغازى الذين حفظوا بمروياتهم ومدوناتهم سيرة الرسول ومغازيه .

وتنبقى الرواية الشفهية عند العرب مصدر كتاباتهم التاريخية والدينية وحفظتها قوة ذاكرتهم إلى أن تم تدوينها وكتابتها على يد الرواه وكُتاب الوحى وكُتاب السير والأحاديث ومؤرخى المسلمين مثل الطبري وابن كثير وغيرهم .

………….

تعريف بالكاتب:

كاتب وباحث في تاريخ العرب الحديث والمعاصر وتاريخ العلاقات الدولية والسياسة الخارجية- جامعة بني سويف- مصر، أستاذ مساعد بالجامعة الاسلامية بولاية منيسوتا الأمريكية القاهرة. كاتب صحفي في صحف دولية مثل الحياة اللندنية والقدس العربي، عضو الاتحاد الدولي للمؤرخين والجمعية المصرية للدراسات التاريخية. مشارك في عشرات المؤتمرات والندوات بدراسات سياسية واقتصادية وتاريخية للباحث أكثر من 50 بحثاً وكتاباً منشوراً. قام بالتدريس في جامعة بنس سويف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى