سليم النفار في ديوانه ” شرف على ذاك المطر ” .. حيرة ثقافية وواقع ملتبس

د. خضر محجز | غزة – فلسطين

أولاً: تقنية الافتتاح:

هناك قول شائع بأن الكاتب يختار أسلوبه. وكأن المتاح أمامه خيارات عدة، لإمكانيات لغوية متعددة. والحق أن الأمر هو على خلاف ذلك تماماً عندي؛ حيث أرى أن الأسلوب هو الذي يختار الكاتب، فلكل كاتب أسلوبه الخاص النابع من ذاته الخاصة فيما يمكن أن يكون هو المعنى الحقيقي للقول الفرنسي المشهور: الأسلوب هو الرجل.
فإذا كان الكاتب متحققاً، فإن أسلوبه يكون كذلك. وإذا كان الكاتب ملتبساً فإن أسلوبه سوف يكون ملتبساً. فشخصية الكاتب ـ كما هو داخل النص، لا كما هو في الواقع ـ يصنعها أسلوبه، وتصل إلى المتلقي من خلال هذا الأسلوب. ونحن عندما نتحدث عن شخصية الكاتب هنا، فإننا نقصد المؤلف الضمني الذي أطل علينا من وراء السطور، لا الكاتب الذي كتب اسمه على النص، ويحمل الرقم الوطني المحدد، وله سجل في دائرة الشؤون المدنية. بمعنى آخر فإننا نتحدث هنا عن المؤلف بصفته الكائن الورقي الذي يشبه شخصية من شخصيات أي نص سردي. ووفق هذا المفهوم سوف يتم تناول الشاعر في ديوان: شرف على ذاك المطر.
يفاجئنا الشاعر منذ المفتتح بهذه المقدمة التي تحمل هذا العنوان (هذه القصيدة) قائلاً: “نشيد البحارة،هي قصتي مع الألم، الذي باغتني مبكرا إذ خسرت أبى ..سيدي، وحارس أحلامي وقوتي” في مطولة شارحة تحاول إقناع المتلقي بالانتقال إلى جو النص!. فليت شعري أية قصيدة هذه التي تحتاج، منذ البداية، إلى مثل هذا الاعتذار!. ثم لماذا هذا الشرح مع أن القصيدة واضحة ومباشرة وشفافة، تحكى قصة حياة الطفل بأسلوب سهل، ولغة بسيطة، على هذا النحو:
“تسع سنين فقط / كانت عمري/ لم أعرف كيف أقود خطاها..أو/ كيف مضت.. /كالبرق تجيء الآن/ كالملح/ تذوب على دمعات القهر/ هل أذكر أن/ كان لي ما للأطفال جميعاً”(ص11 ــ 12).
والحقيقة أنني ـ إضافة إلى ما سبق ـ لا أعرف إن كان هذا شعر تفعيلة أو قصيدة نثر: فالقصيدة حائرة تعاني من انكسار في الوزن، بما لا يتيح لها أن تنتمي إلى قصيدة التفعيلة. وعلى الصعيد الآخر، فان أوزانها وأجواءها ومباشرتها لا تتيح لها أن تنتمي إلى قصيدة النثر. ولقد كان من الممكن تفسير هذه الحيرة بفعل سن الشاعر: حيث أنه خمسيني كهل. إذن فالحيرة هنا ثقافية، أنتجها واقع ملتبس وشخصية لم تحدد خياراتها.
وهذا مثال بسيط على انكسار الوزن:
في قصيدته الأولى (نشيد البحارة) التي اقتطفنا منها المقطع السابق، يختار الشاعر بحر المتدارك في صيغته التقليدية المعروفة التي تتردد فيها التفعيلة فَعِلن (ب بـ) بزحافها المعروف فعْلن (ـ ـ). ويسير هكذا رويداً رويداً حتى يصل إلى قوله: (كالبرق تجيء الآن/ كالملح)، لينكسر الوزن مرة واحدة، بصورة لا يمكن جبرها. ثم يعتدل معه الوزن قليلاً ليعاود الانكسار مرة أخرى، في السطر الذي يليه مباشرة (تذوب على دمعات القهرِ/ هل أذكر إنْ/ كان ليَ/ ما للأطفال جميعاً)!…
هكذا يفعل سليم دائماً وعلى طول الديوان، ومهما اختلفت التفعيلات والبحور. فهل هذه قصيدة نثر فعلاً؟. لكننا نعرف أن مثل هذا النوع من الكتابة لا تتوفر فيه أدوات قصيدة النثر التي نعرفها. وهو مثال آخر وواضح على الحيرة الثقافية التي تحيط بسليم النفار، وتنتج واقعه الملتبس وشخصيته التي لم تحدد خياراتها.

ثانياً :الثنائيات الفاعلة:

ثانياً: 1ـ الحضور والغياب:
عند سليم النفار، تتلاشى ثنائية الحضور والغياب، لصالح الحضور الدائم: فغياب البطل /الأب في نظر الراوي /الشاعر، لا يتحقق وجدانيا، لأنه وأن غاب جسدياً بفعل الشهادة، فهو حاضر بفعل الأحلام العظيمة.. هاهنا حضور دائم وغياب لا يتحقق .يقول: “في عثرات الخطوة عند الباب/ قال حبيبي سأعود إليك/ بزورق أزرق”(ص14).
ثم يقول في نفس القصيدة: “يا أجراس الوعد الرعد/ نامي بعض الشيء/ فأنا مازلت على جلد/ أنتظر الآتي/ أحلم بالفيء”(ص16 ــ 17).
ثم يواصل قائلاً: “أمي قالت فيما بعد/ كانت تسمع خلف جدار الغيم نشيداً كان قريباً وبعيداً/ . بعد قليل يأتي ليرش حياة / فوق خراب الأرض”(ص20 ــ 21).
ونحن نعلم أن سليماً لا يحب أن تكون قصيدته غامضة، من شرحه الذي يصادر على المتلقي أي تأويل، حين قال: “لكن عزائي أن الخسارة قد أصبحت فيما بعد مثار فخري… إنها الخسارة الرابحة، لأنها كانت من أجل ما خسرنا من أحلامنا وأرضنا وأيامنا”(ص7).
إذن فسليم يحاول هنا أن يقنعنا بأنه شاعر ثائر، يستعير لغة الثوار. لكن حفرنا في نصه يبين لنا كم كان عاجزاً نصه عن تمثل ما يريد قوله لنا، في هذا الذي يقول لنا إنه شعر. فلنتأمل كيف حدث ذلك.
الموت في سبيل الوطن هو حياة تثير الفخر، في الثقافة الإسلامية. والموت في سبيل الواجب هو غياب فاجع لم يستطع الإنسان تقبله، فاستعاض عنه بعودة دورية، حيث يأتي ـ في ميثولوجيا هذه المنطقة ـ أدونيس كل عام، في الربيع، لينشر الحياة فوق خراب الأرض.
هذا معروف ولا نريد مناقشته مع سليم، إضافة إلى كونه واضحاً فيما اقتبسناه مما قال عنه بأنه شعر، ووصفه بصفته على غلاف الكتاب. ولكن ما نريد مناقشته معه هو كيف استطاع أن يجمع بين سماويه الإسلام ووثنيه الفينيقيين في نص واحد؟:
1ـ فللحظة واحدة نرى سليماً يفخر باستشهاد أبيه، باعتباره ربحاً (لكن عزائي أن الخسارة قد أصبحت فيما بعد مثار فخري).
2ـ لكن لحظة أخرى تنقض هذا الفخر، وتحوله إلى بكاء جازع، منقول بركاكة فاضحة عن بكاء عشتار على أدونيس، حين يقول: (بعد قليل يأتي ليرش حياة / فوق خراب الأرض)!.
فما هو مرجع سليم الثقافي يا ترى؟. أهو الثقافة الإسلامية، أم ميثيولوجيا الفينيقيين؟. أم أنه يجمع بينهما في عقيدة توحيدية توحد الإلـٰه مع الصنم؟.
وبطريقة أخرى يمكن لنا صياغة سؤالنا فنقول: أيها الشاعر الذي مدح أمير قطر في قصيدة لم تصل إلى الممدوح، قل لنا: هل أنت منطلق من المفاهيم الإسلامية للأمير القطري، أم من التصورات العشتارية التموزية، التي تحاول أن تزين بها قصيدتك البهيجة!!.

إن كنت إسلامياً كممدوحك، فعليك أن تصر على فخرك الذي نسيته، أما إن كنت تموزياً ـ كما تتوق إلى أن تقول ـ فحُق لك أن تبكي وتندب، كما فعلت في موطن آخر من هذا النص، الذي أردت أن يقتنص اسم قصيدة ففشلت. فلنتأمل:
1ـ لقد كانت الأكوان والآلهة تبكى لموت أدونيس وتعتبره خسارة الخسارات. وأنت أردت أن تتقنع بهذا القناع الشعري حين قلت: قلت: (بعد قليل يأتي ليرش حياة / فوق خراب الأرض).
2ـ لكنك ذهبت إلى عكس ذلك تماماً ـ فيما قلت عنه قصيدة ـ في قولك: (بعد قليل يأتي ليرش حياة / فوق خراب الأرض).
فليت شعري، أي الرجلين أنت؟. أأنت الثائر الوفي لذكرى الأب الشهيد، أم الشاعر الجوال الذي يمدح الأمراء؟. تناقض واضح والتباس ثقافي حسير، لا يفسره إلا ظهورك الأخير شاعراً جوالاً مداحاً متكسباً، يغني على ربابته ما يأنف الممدوح أن يجزيه عليه.
لسنا نحاول هنا اكتشاف حقيقة الشاعر، فهذه لا يعلمها إلا الله، ولكننا نحاول قراءة ما يشي به نصه. والنصوص واشية دوماً بكثير مما يختلج في نفوس خالقيها. وما يقوله نص سليم هنا أننا أمام إحدى محاولتين كلاهما حسير: الأولى تقول بأن الشاعر يعاني من نوع من الالتباس العاطفي، والأخرى تقول بأننا أمام محاولة للتقنع بقناع شفاف يكشف أكثر مما ستر، حين يحاول أن يقدم لنا صورة صوفية إشراقية، لكنها تتأبى على الحضور؟.

ثانياً: 2ـ الذكورة والأنوثة:
وعندما يتناول سليم النفار الأنثى يقول: “هنا قلب/ تعفر بالمواعيد الشقية/ فأسلم للمقادير حباً/ تأتأت ناره فيا/ كذا لست طامعا حياة/ ولكن/ في جلال الحب/ تبعثني نقيا/ وقالت ذات طيف/ نم حبيبي/ هي الأيام تمضى/ ونمضى في التفاصيل الشجية/…. كذا قالت/ ومدت من ظلام نورها/ يا صفاء الحلم/ أبقيها مليا”(ص73… 75).
ثم يقول في نفس القصيدة وفي نفس الأجواء: “نم حبيبي/ على وعد/ فغيم الحب لا يرحل/ وإن رحلت مواعيد/ قبيل الوقت قد كنا/ ولكن هاهنا/ لا وقت في وقت يفوت”(ص77 ــ 78).
لا بأس.. نستطيع أن نقول بأن ثنائية (المرأة ـ الرجل) موجودة بشكل أو بآخر هنا، حيث نرى رجلا يتحدث عن امرأة، وامرأة تتحدث عن رجل.. هل هما عاشقان؟ من يدرى!. فربما حدث هذا دون أن توضح لنا القصيدة كيف!. سوف نحاول مرة أخرى رؤية كيف تتحقق هذه العلاقة، وفق هذه القراءة لما سبق:
لقد أسلم سليم حبه للمقادير. ثم إن مواعيده السابقة تعثرت ولم تتحقق، الأمر الذي حدا به إلى الإقلال من الطمع في حب لن يتحقق. لا جرم أنه شخص قنوع جداً: يرضى من محبوبته بالكفاف، ويرضى من مواعيدها بالانتظار. فالوقت أمام الشاعر الخمسميني طويل، والعمر ما زال في بدايته!. ويوما ما سوف تأتي المحبوبة، ولو حتى بعد العقد السادس الذي صار سليم الآن الشاعر يخوضه. فليت شعري، هل انبعث قيس بن الملوح بشعر أشيب هذه المرة؟!.

ثانياً: 3ـ اللهفة والنسيان:

عند سليم النفار تتحقق ثنائية اللهفة والنسيان بشكل آخر، نلاحظه في الأسطر التالية: “أيا أعداءنا أهلا/ بلا حلم يراق/ على نصال خرافة ثكلى/ فهذى الأرض لي/ حقب على حقب/ وهذا البحر لي/ مذ هاجرت فرق الشعوب/ من قلق/ ومن سغب/ إذا أهلا بلا صلف/ على مهلٍ/ ترفق أيها الغازي/ برمل الشط والأصداف”(ص65 ــ 66).
1ـ فاللهفة هنا هي على وطن ضائع يذكره سليم النفار ويتشبث به من جهة: (فهذى الأرض لي وهذا البحر لي)

2ـ والنسيان قادم رغم إرادته. وهو حال يشي بقبول سليم النفار قوة الواقع وحقيقة القوة: (أيا أعدائنا أهلا/ بلا حلم يراق/ إذا أهلا بلا صلف).

كيف تتفاعل هذه الثنائية في جو القصيدة ؟ كيف يتمكن الشاعر الخمسيني من التمسك بلهفة الذكرى الدائمة؟. مؤكدا أن هذه الأرض له، والبحر له، منذ فجر التاريخ. هكذا يريد أن يقول ظاهر كلامه. لكن الغريب أننا نراه ـ وعلى حين غرة ـ يرحب بالغازي، شرط أن يتنازل عن صلفه ويترفق بالشطآن؟!.
لقد سبق أن تناول محمود درويش مثل هذه القضية، في أجمل قصائده على الإطلاق ـ خطبة الهندي الأحمر ـ ثم جاء الآن سليم النفار ليعيد إنتاج هذه العلاقة على طريقة (أيا أعداءنا أهلا). وبعد أن أمعن محمود درويش في سخريته من رغبة الغازي في تقسيم الغنائم بينه وبين المواطن على طريقته، أعلن بوضوح بيانه الأشهر: (خذوا أرض أمي بالسيف لكن لن أوقع بأسمى/ على نصف شبر من الشوك حول حقول الذرة).
ولعمري إن هذا لتناص سليمي نفاري من نوع عجيب!. عجيب عندما نرى كيف ألغت قصيدة سليم اللهفة لصالح النسيان لتقول: مرحبا بك أيها الغازي، ولنتقاسم سوية خبز أمنا، فالأرض كالخبز يمكن أكلها وهضمها؛ بل يمكن كذلك تمثلها على عجل ودون إبطاء. فها هو يقول بالحرف:
“فلا قتل ولا صد/ تعالوا الآن في عجلٍ”(ص78).
ووالله إنهم لن يأتوا يا سليم لا على عجل ولا على مهل، وسيدعون يدك ممدودة دون مصافحة.
النتيجة:
لقد حاول سليم النفار العودة إلى مهمات الشاعر في القرن التاسع عشر، حيث البكاء على الأطلال، وتمجيد البطولة، والأوزان التي حاول أن يضبطها فكسرها؛ وصولا إلى لغة طال امتطاؤها فانهارت، وخلفت وراءها عالما لا يفهمه أبناء القرن الواحد والعشرين، ولا يقبله أبناء القرن التاسع عشر. حتى رأينا في قصيدته عوالم هجينه لا تنتمي إلي أي من العصرين: فلا شعراء القرن التاسع عشر يرضون بالترحيب بالغازي، ولا شعراء القرن الواحد والعشرين يقبلون بالحرب حتى النهاية؛ وإذا كانوا يرضون أن يوصفوا بان هشاشتهم من هشاشة الحياة، فإنهم بالقطع يرفضون أن تكون هشاشة الحياة هي هشاشة الوطن .فالوطن والحياة مفهومان ملتبسان لدى شعراء هذا العصر.
لقد افترضت قصيدة سليم واقعاً ليس موجوداً، وأرادت أن تتعامل مع واقع فرضته القوة. وهنا نقطة الالتباس والحيرة في شخصية الشاعر.

…..
سليم النفار. شرف على ذاك المطر. طبعة1. القدس. أبو غوش للنشر والتوزيع. 2004

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى