هي القدس.. هي عادةُ المدن

خالد جمعة | رام الله – القدس – فلسطين

في البدءِ، كما يُخلقُ العاديّونَ وغيرُ العاديينَ، خُلِقْ، من أمٍّ تبيعُ الحكايا على بابِ روما، وأبٍ هاجرَ إلى أورشليم لينتظرَ نبيّاً.
°°°
حملتهُ على حصان الرؤيا، وعياً مبللاً بعَرَق مسافاتٍ هائلةِ المسافةِ، لتهديهِ إلى حضنِ أبيه، غسّلتْهُ بماءِ الأردنِّ كما قال لها الوشمُ الذي ولِد على ذراعِه اليسرى، أرضعتهُ حصاةً من قاعِ النهرِ وأبقتهُ في طينِهِ نهاراً وليلةً قبلَ أن تدعكَ جلدَه بأدعيةٍ لا حجاب بينها وبين السماء.
°°°
حينَ استطاعتْ قدماهُ أن تخطو فوقَ رملِ أورشليم الساخنِ والمتحوّلِ، قيلَ روّضَت كلُّ الخيولِ نفسَها بين يديه، وبغريزةِ مقاتلٍ قديم، عرفَ أنها تحبُّ السُّكَّرَ فصار سلاحَهُ الثالثَ، جوار الرمحِ والسيفْ.
°°°
قرأ على حكماءَ يُعَدّونَ أكثر مما يعدُّ من السنوات، وعلى جدارٍ يكادُ لا يسنِدُهُ غيرَ الهواء، قرأ نقوشاً بلغاتٍ لا تُحصى، تسمّي المدينةَ والذينَ مرّوا بينَ أزقّتِها، ولقّنَهُ هواؤها لغاتِ مَنْ تنفّسوهُ فصارَ حضارةً قبلَ أن يدخلَ في تاريخِ المدينةِ من بابٍ لم يخطرْ له مطلقاً.
°°°
فيما كان يعيدُ صياغةَ يديهِ لتلائما عنقَ فَرَسِهِ ومقبضَ سيفِهِ وانحناءةَ بوصةِ الحبرِ في جيبِ درعِهِ الكتّانيّْ، كانَ عليهِ أن يقطعَ مليونَ ميل، وآلافِ الموجاتِ ويستبدلَ ألفَ حصانٍ قبلَ أن يكتشفَ أنّهُ عاشقٌ قبلَ أن يكونَ محارباً تسقطُ المدنُ بينَ خطواتِ فَرسِهِ.
°°°
لم تكن امرأةً، رغمَ أن النساءَ تناثرنَ حولَهُ كفراشاتِ غابةٍ من الكينا والكافورِ والحنّاء، لم تكنْ زهرةً مع أن الوردَ نبتَ بين حلمِهِ ويقظتِهِ حقولاً لا تُحَدُّ.
°°°
كانت مدينةً من نسيجِ الغيمِ والنارِ معاً، بأسوارٍ تحمي جمالَها من عيونِ المسافرين، لم يكنْ من اللائقِ أن تراها من الخارجِ، لذا كان السورُ يقولُ لك: كن داخلاً أو لا تَكُنْ، ولم يكن للسورِ سرٌّ حربيٌّ ـ هكذا ظنَّ هيرودوتس مخطئاً ـ كما هي عادةُ المدن.
°°°
أمرَ مقاتليه بالاستحمامِ في الأردنِّ، فمن زالَ عن جلدِهِ الشَّغَفُ، أو ذهبَ اسمُ المدينةِ عن قلبِهِ، أو سقطَ ضوءُ الألقِ من عينيه، كان يأمرُ بنفيِهِ دون حقٍّ بالعودةٍ إلى ما بعد الأبدْ.
°°°
في أسفارِهِ، كما يحملُ يديهِ وسيفَهُ وأغنياتِهِ وسكَّرَ أحصنته، كان يحملُ مدينتَهُ كذلك، بتفاصيلِ قمرِها الذي لا يغيبُ، ونشوةِ حواريها بانتصاراتِه الصغيرةِ والكبيرة، بالأعشابِ بينَ شقوقِ حجارتِها، بملامحِ الدهشةِ لدى أول نظرةٍ لحاجٍّ أمضى أعماراً يحلُمُ بحفنةٍ من ذهبِ رملِها.
°°°
تحوّلَتْ سنواتُهُ كثيراً، بين الجهاتِ، خلفَ البحارِ، فوقَ الخرائط البدائيةِ للأرض، في المعاركْ السهلةِ وتلك التي كادَ أن يفقدَ حياتَهُ فيها، وفي كلِّ مرةٍ كانت المدينةُ سرَّهُ وليسَ المجدُ كما وُجِدَ على نقشِ البابِ الشماليِّ للمدينة.
°°°
على حجرٍ من صخرِ المدينةِ يجلسُ ما زالَ، حاملاً عشقَهُ بعد أن تهتّكَ الزمنُ، وما زال يمضي والسكَّرُ يعبئُ جيوبَهُ فيما الخيولُ تنظرُ إليهِ بشغفٍ من بعيد.